كريتر نت – العرب
تعاملت الاستخبارات الأميركية التي يقودها حاليا ويليام بيرنز بهدوء ودهاء مع الغزو الروسي لأوكرانيا، وهي تعامل بقية القضايا الشائكة في آسيا بنفس المنطق، حيث تعكس المتعارف عليه في العمل الاستخباراتي بأن تقوم بنفسها بإفشاء أسرارها على مواقع الإنترنت مستغلة سرعة رواج الأخبار، لتثبت للعالم بأكمله أن من يملك المعلومة يمكنه اتخاذ القرار المناسب في التوقيت المناسب.
وأعادت الحرب الروسية – الأوكرانية الاعتبار لدور المخابرات، حيث لعبت المعلومات الاستخبارية لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية “سي.آي.أي” الدور الأبرز في الفترة التي سبقت الغزو الروسي لكييف.
وكشفت الوكالة مرارا عن التحركات الروسية، مما ساعد في التمهيد لكسب التأييد واسع النطاق الحالي لأوكرانيا، كما كشفت تباعا عن التحركات والحشود الروسية التي كانت تتأهب للتوغل داخل الأراضي الأوكرانية، بالرغم من نفي موسكو حينها أنها تنوي القيام بعمل عسكري.
وجعلت المعلومات الاستخبارية الأميركية العالم يدرك من جديد أن من يعرف الحقيقة على الأرض يسهل عليه اتخاذ القرار المناسب، وتوجيه الرأي العام بالشكل الذي يراه مناسبا أيضا.
ومنذ وصول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الحكم، غيّرت الاستخبارات المركزية الأميركية من توجهاتها نحو آسيا، حيث ركزت جلّ اهتماماتها على روسيا والصين وكوريا الجنوبية. وصارت تنشر تقارير دقيقة لكل ما يحصل على أرض الواقع.
أحمد الشرعي: الوكالة وحّدت العالم ضد روسيا بمشاركة أسرارها على الإنترنت
وكان بايدن رشّح ويليام بيرنز للعمل كمدير لوكالة المخابرات المركزية، ليحصل على موافقة مجلس الشيوخ الأميركي بالإجماع في مارس 2021.
وقال الإعلامي المغربي أحمد الشرعي، عضو مجلس إدارة المجلس الأطلنطي ومجموعة الأزمات الدولية ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ومعهد أبحاث السياسة الخارجية ومركز ناشونال إنتريست، إن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في عهد ويليام بيرنز قد عادت إلى دورها المعهود.
وأضاف الشرعي في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأميركية أن بيرنز اكتسب ثقة ودعم كل من الرؤساء الديمقراطيين والجمهوريين على مدى اثنين وثلاثين عاما في الخدمة الخارجية الأميركية، حتى إن الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش اختاره بعناية للقاء سري عام 2008 مع القادة الإيرانيين. وكان واحدا من أصغر من تمت ترقيتهم إلى رتبة سفير محترف، أي ما يعادل جنرالا من فئة الأربع نجوم في القوات المسلحة الأميركية.
واستشهد بايدن بتعامل بيرنز الماهر مع “القضايا الشائكة”. وكان بايدن على حق، إذ يثبت بيرنز أنه واحد من أكثر من قام بتعيينهم دهاء، وفقا للشرعي.
وفي عامه الأول، استعرض بيرنز مهاراته الكبيرة المتمثلة في خبرته الطويلة التي اكتسبها بشق الأنفس، وطباعه الودية وقدرته على الاستماع، لاستعادة التعاون الاستخباراتي والدبلوماسي مع حلفاء الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم.
ويقول الشرعي إن “الدبلوماسية الشخصية، قد عفّى عليها الزمن في وكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الخارجية. لكن بيرنز الذي يجيد اللغتين الروسية والعربية، يعرف أن هذا النهج قد أتى بثماره في الماضي. وقد أسفر الاتصال المباشر مع العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، وزعيم ليبيا الراحل معمر القذافي عن إنجازات دبلوماسية في العقود الماضية. ويمكن أن ينجح هذا مرة أخرى، إذا تمت تجربته. وفعل بيرنز ذلك”.
كما أعاد بيرنز وكالة الاستخبارات المركزية إلى مهمتها الأساسية، حيث جمع معلومات استخبارية عن منافسي الولايات المتحدة، بما في ذلك أقدم منافس عالمي لها، وهي روسيا.
وقد ثبت أن كل هذا ضروري عندما دخلت دبابات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير الماضي.
ويواجه بيرنز الآن بوتين، وهو ضابط سابق في جهاز الاستخبارات السوفيتية “كي.جي.بي”. وتعلّم بوتين من خلال عيشه في ألمانيا الشرقية في ثمانينات القرن الماضي كيفية استخدام الجماعات بالوكالة لتنفيذ هجمات “يمكن إنكارها”، وكيفية التلاعب بالمثل الغربية حول تقرير المصير والهوية الوطنية وحقوق الإنسان لمصلحته الخاصة. والآن يستخدم بوتين مجموعة أدواته المتلاعبة نفسها لربط شرق أوكرانيا بروسيا.
وفي مواجهة مثل هذا الخصم القوي، طرح بيرنز سلاحا جديدا، يستمد قوته بشكل فريد من وسائل التواصل الاجتماعي.
وتقليديا، كانت وكالة الاستخبارات المركزية تجمع المعلومات بهدوء، وتشاركها فقط مع مسؤولين أميركيين مختارين بعناية، لذلك لن يعرف الهدف أبدا أن أسراره قد سرقت. لكن ماذا لو عكست الوكالة كل هذه الأشياء الثلاثة؟
◙ بوتين يستخدم مجموعة أدواته المتلاعبة نفسها لربط شرق أوكرانيا بروسيا
لقد قرر بيرنز البدء في الكشف عما تعرفه الوكالة. وتحت قيادته اختار عملاء الظلال الضوء كسلاح لهم، وقد ثبت ذلك أنه مدمر.
وبدءا من أول صور الأقمار الاصطناعية للقوات الروسية المحتشدة على طول حدود أوكرانيا في أبريل 2021، اختار بيرنز وإدارة بايدن الكشف عن كل ما يعرفانه تقريبا عن خطط موسكو. ولم يسبق للولايات المتحدة أن نشرت مثل هذا القدر من المعلومات والتحليلات، بهذا القدر من التفصيل وبهذه السرعة والاتساق.
ومع تقديم الكثير من البيانات الموضوعية للعامة، أصبحت الغالبية العظمى ترى روسيا كمعتد محتمل في عام 2021. وعلى مدار ذلك العام، حظيت سياسة بايدن المتمثلة في ردع الغزو عن طريق شحن الأسلحة إلى أوكرانيا، بدعم عام.
وبمجرد أن جاء الغزو الذي كان يخشى منه منذ فترة طويلة، سرعان ما تلقت الجماهير معلومات حول إخفاقات روسيا ومقاومة أوكرانيا العنيدة بشكل مدهش. وشهد العالم الفظائع الروسية، والإخفاقات اللوجستية، وانهيار معنويات القوات، وشكوك المجندين حول النصر. وسرعان ما أصبحت هذه المعلومات عملية “الحرب النفسية” الأكثر فعالية منذ الحرب العالمية الثانية عبر الإنترنت.
ووحّدت سياسة المعلومات المفتوحة هذه، الدعم الشعبي الغربي لديمقراطية محاصرة – أوكرانيا – سعت جارتها العملاقة روسيا إلى التهامها.
ويقول الشرعي إن اتساع نطاق ما كشفته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لم يسبق له مثيل. وشكك العديد من الحلفاء الأوروبيين في هذه المعلومات حتى لحظة الغزو.
لكن في صباح الرابع والعشرين من فبراير، أدرك العالم تماما أن وكالة الاستخبارات المركزية كانت تقول الحقيقة.
ومن خلال مشاركة أسرارها، وحّدت وكالة الاستخبارات المركزية العالم ضد الغزو الروسي، وجعلت من الصعب على بوتين إخفاء حقيقة هجومه الشرس.
ويضيف الشرعي أن أوكرانيا ليست الأزمة الوحيدة التي ظهرت فيها براعة الوكالة. فهناك جبهات أخرى من جبهات الحرب الباردة التي غابت طويلا وتعود إلى الحياة. ويفصل مضيق تايوان الذي يعرف أيضا بمضيق فورموسي الصين عن تايوان بالكاد بـ100 ميل من المياه. وسرعان ما قد تعبر الصين ذلك المضيق بقوة. ويتقاسم الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي أعلن مع بوتين الصداقة التي لا حدود لها بين بلديهما قبل أسابيع قليلة من الغزو الروسي لأوكرانيا، مع حليفه بعض الصراحة بشأن نواياه. ولم يستبعد أبدا استخدام القوة “لإعادة توحيد” الجزيرة المتمردة.
منذ وصول جو بايدن إلى الحكم، غيّرت الاستخبارات المركزية الأميركية من توجهاتها نحو آسيا، حيث ركزت جلّ اهتماماتها على روسيا والصين وكوريا الجنوبية
وفي مواجهة خطر نشوب حرب على جبهتين إذا غزت الصين تايوان بينما تقاتل روسيا في أوكرانيا، زاد بيرنز من عدد موظفي وكالة الاستخبارات المركزية الذين يركزون على الصين، مضيفا العديد من المتحدثين باللغة الصينية إلى صفوف المحللين. والآن، تدرك الصين أن تحركاتها العدوانية نحو الديمقراطية في الجزيرة سوف يتم سردها للعالم.
كما أن شبه الجزيرة الكورية هي نقطة اشتعال أخرى. وضاعفت كوريا الشمالية عدد تجاربها الصاروخية الباليستية و”الهايبرسونيك” منذ يناير، حتى إنها أطلقت صواريخ يمكن أن تضرب لوس أنجلس أو سان فرانسيسكو.
وتختبر إيران أيضا صواريخ أرضية وبحرية، يمكن أن تمطر إسرائيل أو حلفاء الولايات المتحدة العرب والأوروبيين. ويطلق حلفاء إيران في اليمن، الحوثيون الشيعة، الصواريخ بشكل روتيني لقتل وتشويه المدنيين في السعودية والإمارات، وهما شريكان رئيسيان للولايات المتحدة.
أضف إلى ذلك الجائحة المستمرة، والارتفاع المزعزع للاستقرار في أسعار الغذاء والطاقة في جميع أنحاء العالم، والتهديد الذي يهدد سيادة الدولار الأميركي، وتغير المناخ. وتواجه وكالة الاستخبارات المركزية إعصارا من الأزمات، تتراوح بين الأزمات العاجلة والمهمة.
وتوقّع قليلون أن يؤدي الإفراج المستمر عن المعلومات الاستخباراتية من قبل الـ”سي.آي.أي” إلى توحيد العالم ضد روسيا. والآن حدث ذلك بالفعل. وبالنسبة للصين والتهديدات الأخرى، قد يكون لدى بيرنز بعض البطاقات الجديدة الأخرى في جعبته.