فاروق يوسف
كشف الجدل حول الصحافية المغدورة شيرين أبوعاقلة عن تدن فظيع في المستوى الإنساني وغياب كامل للحس الوطني لدى دعاة الإسلام السياسي وحَمَلَتِهِ والمبشرين به نهجا للحياة والقضية الفلسطينيتين اللتين هما الشيء نفسه. ذلك لأن الفلسطينيين قد محوروا عبر أكثر من نصف قرن من الكدح النضالي حياتهم حول قضيتهم. فالفلسطيني بغض النظر عن مكان عيشه وعمله هو قضيته.
ما لا يعرفه المتأسلمون أن القضية كانت عنوانا لفلسطين، الوطن وليس فلسطين الديانات. وهو ما جسّده النضال الوطني الفلسطيني حين لم يكن دين الفلسطيني هو معيار انتمائه إلى القضية، بل كان الشعور الوطني هو الدافع للتضحية والفداء. ويوم كان الفدائي رمزا للقضية لم تكن هناك ضرورة للسؤال عن دينه. وهنا نتذكر بفخر جورج حبش ووديع حداد اللذين نجحا من خلال العمليات النوعية التي نفذتها الجبهة الشعبية في نقل القضية إلى العالمية وكسر إطارها الإقليمي. كانا مسيحيين ولكن ذلك لم يكن إلا تفصيلا شخصيا.
يوم كانت هناك قيم نضالية عالية وشفافة كان الفلسطيني الحقيقي هو ابن القضية بمعنى أنه ابن فلسطين الساعي إلى تحريرها الاحتلال الإسرائيلي وإنهائه. غير أن تلك القيم سقطت كلها بعد أن دخلت القضية في دهاليز معتمة أفضت إلى أن يسقط الكثيرون في مصائد التنظيمات الدينية المتشددة التي اعتبرت فلسطين قضية دينية من أجل أن تمحو عنها طابعها الوطني. ولأن اتفاق أوسلو قد غمر القضية بمياه عفنة وبعد أن غيّب الموت كبار المناضلين الوطنيين فإن تلك التنظيمات وجدت الفرصة أمامها مفتوحة للهيمنة على الفلسطينيين في ظل انهيار السلطة الفلسطينية.
ففلسطينيو اليوم ليسوا فلسطينيي الأمس.
لقد نسي الفلسطينيون مكانتهم في الضمير القومي العربي وصاروا يتعاملون مع قضيتهم كما لو أنها ابتكار إيراني أو تركي
تلك علامة شؤم. وهو ما اختبرها الفلسطينيون حين اعتزلت غزة النضال الفلسطيني الشامل وصارت تقاتل وحدها. تبتكر حروبها وفق أجندات لا علاقة لها بالقضية الفلسطينية. لقد صارت غزة أشبه بالإمارة الإخوانية التي تستجيب لإملاءات الولي الفقيه الإيراني من غير أن يكون لسلطة رام الله رأي في ذلك.
لقد نسي الفلسطينيون مكانتهم في الضمير القومي العربي وصاروا يتعاملون مع قضيتهم كما لو أنها ابتكار إيراني أو تركي. شيء أشبه بالعجمة وقف بين الفلسطيني وقضيته. مَن هو الفلسطيني وأين تقع فلسطين؟ عدنا حينها إلى الهوية. عملت التنظيمات المتشددة على نسف العلاقة بين الفلسطيني وماضيه لتنتج فلسطينيا يكون أشبه بالأغذية الجاهزة. لم يعد فلسطينيو حماس قادرين على تحمل الفلسطيني الآخر الذي لا يؤمن إلا بفلسطين عنوانا لقضيته. بالنسبة إلى قادة حماس المعجبين بالتجربة الإيرانية فإن غزة ليست جزءا من فلسطين، بل هي نواة لدولة الإخوان.
تلك خلفية المشهد الذي ظهر مكتملا لمناسبة استشهاد شيرين نصري أنطوان أبوعاقلة المقدسية التي عملت مراسلة لقناة الجزيرة منذ أكثر من عشرين سنة وكانت صوت الداخل الفلسطيني في مواجهة الوحشية الإسرائيلية.
لقد قتلت شيرين برصاصة قناص وهو ما يعني أن القتل كان متعمدا. ولكن شيرين غطت كل الاجتياحات الإسرائيلية من غير أن تتعرض للتهديد المباشر. هل تقتل إسرائيل صحافيا؟ ذلك غباء غير مسبوق. أما حين تنعق غربان محاكم التفتيش الإسلامي ضد القتيلة شيرين باعتبارها مسيحية فإن ذلك ينحرف بالمسألة في اتجاه يمكن تسليط الضوء من خلاله على الشبهات التي يمكن أن تحيط بمقتل شيرين.
سيكون من البديهي أن تكون إسرائيل هي التي قتلت شيرين. ذلك وصف جاهز للحالة. ولكن ما فعله حراس الجنة عبر مواقع التواصل الاجتماعي يفتح باب الجحيم للفلسطينيين الذين لم يستظلوا بمظلات التنظيمات الإسلامية المتشددة. ليس هناك مكان للفلسطيني المختلف. ذلك الآخر الذي يجب تغييبه على الأقل. بسذاجة وغباء وجمل رثة جرى تجريد شيرين أبوعاقلة من لقب شهيدة. هي ليست شهيدة لأنها لم تكن مسلمة. ما هذه البلاهة؟
شيرين المرأة المغدورة، الصحافية التي ظلت حريصة على حيادها في نقل الحقيقة كانت في الأصل فلسطينية. لذلك كان شعورها الوطني هو الغالب في التغطية. ربما قُتلت بسبب ذلك الشعور. المتأسلمون سعوا إلى قتل شيرين مرة أخرى حين سطوا على حقها في أن تكون شهيدة. هل تحتاج شيرين إلى ذلك اللقب؟ أعتقد أن ما فعله الإسلاميون في ظل رعاية الإخوانية توكل كرمان في فيسبوك كان رسالة عنف إخواني. لم تكن شيرين هي المقصودة، ولكنها القضية التي صار يجب تغييبها. فالفلسطيني يوم كان يناضل من أجل تحرير فلسطين لم يكن يفعل ذلك من أجل دخول الجنة.
نقلاً عن العرب اللندنية