لطفي فؤاد نعمان
ترى هل محاولات ومساعي التلافي المبكر لآثار كارثة الناقلة صافر والحيلولة دون تسرب محتواها النفطي إلى أبعد من نطاقها، ستكون أوفر حظاً من معالجة “اليمننة: العلة والمشكلة اليمنية”؟ إذ أخذ العالم يتداعى من مطلع العام 2020 بالقلق والخوف على البيئة الإقليمية والاقتصاد العالمي، والبحث عن سبل تفادي وقوع كارثة بيئية واقتصادية ناجمة عن استمرار طفو الناقلة صافر على سطح البحر الأحمر قبالة السواحل اليمنية الغربية منذ سبع سنين ونيف.
للناقلة صافر جسد متهالك يُسهل تآكله انسكاب محتويات مليون ومائة وأربعين ألف برميل نفط وسط “بحر مغلق” تسبب قتل فرص الحياة على ضفتي دول البحر الأحمر شرقاً وغرباً.
ثمة من يرجح تهديدها بعض شطآن “الشرق الأوسط الأخضر” إذ ستتعدى السواحل اليمنية إلى مشارف نيوم والعقبة وقناة السويس شمالاً (السعودية والأردن ومصر)، فتتساوى مع تهديد الجنوب في عصب وجيبوتي ومضيق باب المندب (إريتريا وجيبوتي واليمن وبقية دول القرن الأفريقي)، كما لم يستبعد مارك لوكوك وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية سابقاً خطر الانسكاب إلى مضيق هرمز. نتيجة تصاعد التيارات البحرية في فصل معين يتجاوز البيانات والنماذج الأولية المصممة على تقديرات بيانية لمراكز معنية بالبيئة، تتخطاها مقادير الواقع فعلاً.
مستقبل صافر في لاهاي
كون التعاون في الأمن البيئي من متطلبات تحقيق السلام العالمي، احتضنت مدينة لاهاي الهولندية يوم 11 مايو 2022م فعالية نظمتها هولندا مع الأمم المتحدة لمؤتمر حشد التبرعات اللازمة للتصدي لخطر انسكاب نفطي من “الخزان العائم معدوم الصيانة” بغية جمع مائة وأربعة وأربعين مليون دولار سيحول دون إنفاق عشرات المليارات من الدولارات لمحاولة تنظيف البحر الأحمر فيما إذا تسربت محتويات الناقلة.. عدا أن حصيلة هذا المؤتمر من تعهدات المتبرعين لم ترق إلى تغطية ثلث السقف المحدد، بحسب إفادة مصدر دبلوماسي حضر تلك الفعالية وحصر حصيلتها 34 مليون دولار. وإن أضيف إليها ٧ ملايين مرصودة سابقا.. فيصبح ٤١ مليون دولارا.
من هم المتعهدون وهل غابت السعودية؟
بحسب موقع الأمم المتحدة “تعهدت هولندا بتقديم نحو 8 ملايين دولار، فيما شملت قائمة الدولة الأخرى التي تعهدت كلا من ألمانيا والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وقطر والسويد والنرويج وفنلندا، وفرنسا، وسويسرا، ولوكسمبرغ”.
ويتضح غياب تعهدات عدد من أهم أصدقاء اليمن وأشقائه، لا سيما السعودية، ما يفتح باب التساؤل والتكهن حول سر الغياب السعودي، إن كان عفوياً أو مدروساً.
مصدر دبلوماسي مطلع أغلق باب التكهن بقوله “تقرر أن يكون ممثل حكومة الرياض في المؤتمر هو المشرف العام على مركز الملك سلمان للإغاثة الدكتور عبد الله بن عبد العزيز الربيعة” من سبق له بحث خطر صافر خلال اجتماع عقد بمكتبه في الرياض، أبريل الماضي، مع منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في اليمن ديفيد غريسلي والمبعوث الأميركي إلى اليمن تيم ليندركينغ والسفير الهولندي لدى اليمن بيتر ديريك هوف.. لكن “الربيعة لم يشارك” بكلمته المسجلة بسبب “مشكلة تقنية حالت دون ظهوره في فعاليات المؤتمر”.
المصدر الدبلوماسي نفسه، توقع أن السعودية “ستعلن عن مقدار تعهدها لاحقاً”، فالضرر البيئي المتوقع يمسها أيضاً. لافتاً إلى أن دولة كبرى صديقة هي “الولايات المتحدة برغم مشاركتها القوية في كل تحركات إنقاذ صافر لم تلتزم بأي تعهد حتى اللحظة”.
علماً بصدور بيان “معنوي” عن المبعوث ليندركينغ يحث أصدقاء وأشقاء اليمن على دعم الخطة الأممية “مادياً”.
حصيلة متوقعة، ومنح متوقفة على وضع المستفيدين
إجمالاً لا تشكل نتيجة مؤتمر لاهاي لإنقاذ صافر استثناءً بالنسبة لما سبق عقده من مؤتمرات مانحين لليمن من سنة 2006م واجتماعات أصدقاء اليمن من سنة 2010م حتى الآن، كون الواقع يخالف المتوقع. غالباً يضع منظمو المؤتمرات من يمنيين وغيرهم، سقفاً معيناً من باب “خوفه بالموت يرضى بالحمى” أو بالغ بالمطالب تنال المطلوب.
لكن الدول والمنظمات حسب خبراء مختصين تبني تقديراتها على أساس واع بالقدرة الاستيعابية للمستفيدين من المنح ومدى جفاف بؤر الفساد لديهم.
كما تشارك الدول هذه الفعاليات، حسب مسئول بوزارة التخطيط اليمنية “بعد تحديد مقدار تعهدها وإخطار المستفيدين مسبقاً، فلا يكون الالتزام عشوائياً وعفوياً ولا تعد النتيجة مفاجئة”.
هكذا يكون التنسيق رفيع المستوى بين الأمم المتحدة والحكومة الهولندية وغيرهم من المطلعين مؤسساً على إدراك ما أتى وسيأتي من مستلزمات إنقاذ ووقاية ودفع ضرر بيئي محتمل، إذا تصلب الساسة وسببوا تلويث البيئة وقتل الاقتصاد وإفساد حياة قطاع من المواطنين تتآكل أحلامهم في العيش الكريم طالما يستمر تآكل الناقلة المتهالكة، وتقليص فرص السلام لليمن.
كيف أثيرت قصة الناقلة؟
تفيد الموسوعات الإلكترونية والمواقع الإخبارية عن تاريخ بناء الناقلة وأصلها الياباني سنة 1976م قبل ثلاثة عقود ونيف من الاستخدام اليماني حتى تعليق مصيرها بكف الحوثيين وسط البحر الأحمر من سنة 2015م ضمن محيط سيطرتهم شمال اليمن.
مما جعل الجماعة يتمتعون بسلطة منع ومنح حق وصول أي فريق أممي إليها بغرض الاطلاع المباشر على وضعها وتقدير ودراسة مخاطر بقائها على ما هي عليه “كعامل ردع عسكري بالنسبة للحوثيين”.
بقيت الجماعة تُخضِع الناقلة صافر للابتزاز السياسي، بينما الشرعية في الجانب الموازي تُطوع الحالة كمظلومية حكومية، انطلقت صافرات الإنذار من أنصار البيئة العالميين وبدأ باحثون ومحللون في آي آر كونسيليوم من أبريل 2019م إصدار سلسلة مقالات عبر موقع “أتلانتك كاونسل” تنذر بخطر إهمال “القنبلة الموقوتة” صافر.
ثم تتصل جريدة “الجارديان” بمنظمة سي إي أو (مرصد الصراع والبيئة) فيتضاعف تركيزهم مع الأمم المتحدة عبر مسئولين أمميين وأهم أعضاء مجلس الأمن الدولي على هذه النقطة الخطرة من صيف 2019م.
توالت دعوات تفادي الكارثة قبل وقوعها، كان أبرز الدعاة السفير البريطاني السابق لدى اليمن مايكل أرون، وفي ندوة نظمها ائتلاف النساء المستقلات (برئاسة وسام باسندوه) في شهر يونيو 2020م لفت إلى دراسة رعتها حكومة لندن حول هذا الشأن قدمتها منظمات معنية بدراسة المخاطر و”نمذجتها” (زودنا السفير أرون مؤخراً بأسمائها: ريسك أوير، ايكايس وكاتبولت). ثم عقد مجلس الأمن الدولي جلسة خاصة حول صافر. وهكذا بريطانيا أطلقت الدعوة، وهولندا التقطتها أخيراً.
تشابه كوارث
عقب التناول الإعلامي عالميًا لتهديد صافر، في ذروة انتشار كوفيد 19 (جائحة كورونا) فجع الناس بانفجار مرفأ بيروت في البحر المتوسط، واغتناماً للانشغال العالمي بها، بدأ المعنيون باليمننة يضعون احتمال تكرار فاجعة صافر في البحر الأحمر، وأبرزوا سيناريوهات: الغرق والتفجير والتسريب.. مع شيوع ظن بيع محتويات الناقلة من جانب المسيطرين على محيطها.
ذاك عن الجهد الدولي.. هل من جهد محلي؟
لم ينفرد المجتمع الدولي بالانشغال بقضية الناقلة صافر، فمن باب النكاية وتبادل الاتهامات وتنصل الأطراف من المسئولية، ظلت سلطات صنعاء تلقي كامل اللوم على قيادة تحالف دعم الشرعية، ووجهت سلطات الشرعية المدعومة من التحالف خطاباتها إلى الأمم المتحدة تشكو سلطة صنعاء وتلومها على سوء مصير البيئة البحرية، فعاود المجتمع الدولي يطلق صافرة إنذار ضد الإهمال مستفيداً من دراسات أنصار ومراقبي الأمن البيئي وسط مناطق النزاع، الذين شرع بعضهم التواصل مع أحد قادة الحوثيين عبر تويتر.
أجريت بدراسات “النمذجة” مقارنة بنماذج كوارث بيئية سابقة أبرزها حادثة شهيرة باسم تسرب “إكسون فالديز” سنة 1989م بألاسكا وسط “بحر مفتوح” يفوقه بأضعاف مضاعفة خطر الانسكاب وسط “بحر مغلق” محاط بثمانية دول. (كرر التذكير بفالديز السفير البريطاني الحالي ريتشارد أوبنهايم.. حديث مع عبدالهادي حبتور بالشرق الأوسط، أكتوبر 2021م).
سبق مشورة
في سياق التفاعل الدولي أطل جهد محلي يمني عبر مجموعة استشارية بقيادة يمنية مقيمة في لندن باشرت من أواخر 2019م متابعة مجمل تفاصيل الناقلة وواكبتها. وبما تتمتع به من صلات مع جماعات ضغط ودوائر سياسية بريطانية، وهيئات دولية أخرى، شاطرت المجتمع الدولي مخاوف خطر الانسكاب مع بدء تسرب المياه إلى غرفة المحركات والتبريد.
مجموعة “مشورة” سابقاً أو (جرين بي إنسايتس حالياً) أمكنها النفاذ إلى صنعاء.
ونظمت ندوة عبر تطبيق “زووم” مطلع سبتمبر 2020م، قدم فيها الباحثون المتخصصون في الدوائر التي استعانت بها الحكومة البريطانية، أوراق عمل تقترح كيفية “تجنب التسرب النفطي على سواحل اليمن”.
انشغال “مشورة” بالخزان العائم على الشاطئ اليمني اتسق مع اشتغالهم في شؤون تطوير البيئة والطاقة الدولية، علاوةً على تفاعل الحس الإنساني اليمني، مع معاناة البشر جراء خطر داهم كهذا. فاندفعت المجموعة تحاول تطبيق وعرض مقترحات “تجنيب اليمن كارثة بيئية واقتصادية”.
فخطت خطوات عملية بالتواصل مع صنعاء دعماً لجهود ومقترحات التلافي المبكر وتكبدت -بموازاة آخرين- مشاق إقناع الجماعة هناك بتذليل صعاب الوصول إلى حل وقائي مبتكر من “مشورة”.
عرض العيسي
تلمساً لسبل حل عملي ينزع “اللغم النفطي الموقوت” وسط البحر الأحمر، تواصلت شركة “مشورة” مع أحد رجال الأعمال اليمنيين البارزين الشيخ أحمد صالح العيسي.
تجاوبه مع الأفكار المطروحة تركز بعرض تأجير ناقلتين بديلتين من شركاته، لحفظ النفط المخزون بنفس الموقع حرصاً على تأمين الوضع البيئي والإنساني..
العرض “العيسي” الحريص على الوضع الإنساني والبيئة البحرية والاقتصاد العالمي، يتسق مع حديث مثير للجدل (مع مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية – مارس 2021م)، أجراه بصفته السياسية نائب مدير مكتب الرئاسة (عين مؤخراً عضواً بهيئة التشاور والمصالحة، وله اهتمامات رياضية)، إذ قال أنه حين يفكر في تجارته فإن خدماته التجارية معروضة لكل الأطراف المتناحرة، بيد أن موقفه حالياً محدد تجاه أحد المتناحرين، إذ فُرضت عليه السياسة فتحول إلى سياسي من رجل أعمال. كذلك تفرض الأوضاع البيئية والإنسانية تفاعل الجميع معها.
رد صنعاء
التواصل مع العيسي، ثم شركة دولية خاصة لإجراء عملية تفريغ الناقلة إلى البدائل المقترحة من مشورة: تأجير ناقلتي العيسي، وشراء ناقلة بديلة، تلاهما تواصل المدير التنفيذي لـ”مشورة (جرين بي إنسايتس حالياً)” علياء نبيل إسحاق مع سلطات صنعاء، حول اهمية تفادي للكارثة البيئية والاقتصادية، ووضعت مقترحات عملية رحبت بها صنعاء..
اتصالات دبلوماسية حول العروض الأولية
على مدى شهور أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر 2020م ثم يناير 2021م، أجرى أهل “مشورة” اتصالاتهم مع مستويات دبلوماسية شقيقة وصديقة أخرى كسفارات هولندا (حيث التقوهم لأربع مرات لبحث التفاصيل والتكاليف)، والمملكة المتحدة وعدد من دول الاتحاد الأوروبي، ومؤسسات دولية ومكاتب متخصصة بهيئة الأمم المتحدة وبعض مستشاري المبعوث السابق مارتن غريفيث (وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية حالياً.. تطرق إلى مسألة صافر خلال لقاء صحافي (يونيو 2021م) بعد أيام من زيارته طهران، حيث تلقى “عرضاً إيرانياً لتوفير ناقلة نفط بديلة (!!!)” ولمح دون تسمية إلى “جهود للقطاع الخاص التجاري للنظر في طريقة مختلفة للقيام بذلك”).
قبل خروجها من إطار الصورة الحالية، عرضت “مشورة” ما سبق تقديمه من مشورات بالتعاون مع آي آر كونسيليوم حول إمكانية “احتواء بقع النفط”.
وعرض شامل لمقترحات الحل يتضمن: تحليل تأثير المخاطر على اليمن والسعودية معاً، في النواحي الاقتصادية (شاملاً الزراعة والسياحة وغيرهما) والصحية، والبيئية والإنسانية.
كذا ما تم من خطوات وإجراءات وتحركات محتملة وخيارات حل: بتأجير أم شراء ناقلة بديلة وفق تقديرات أولية أقل كلفة (ومقترحات مبتكرة يمنيا من مشورة؛ حسب علياء إسحاق) لم تكن في وارد ذهن المتابعين والمعنيين الدبلوماسيين لحظتها، ومع اختلاف الظروف العالمية وبروز جهات وشركات معنية بهذا الشأن الآن ما أمكنهم التفكر فيما سبق تقديمه يمنيا والرجوع إليه.
حماية البيئة وتحقيق السلام مسؤولية مشتركة
مثلما يتطلب تحقيق السلام إرادة وطنية، يستلزم تأمين البيئة وتنقيتها باعتبارها مسئولية مشتركة يجب تجسيدها عبر جهود كثيرة منها كل “جهد مجهول” و”تنبيه مبكر” و “حل يمني مبتكر” لم تُسلّط عليه أضواء الإعلام ويضبط خطاه على وقع ضوضاء السياسة.
وسيظل المؤمنون والمؤمنات بسلام اليمن وأمن المنطقة وتنقية بيئته على هذا الطريق، دون تشويش دور ما أو تشويه صورة عامة معروضة أخيراً، إذ يعلو الحس الوطني والإنساني ولا يعدم روح الإنصاف للحقوق الأدبية والمعنوية مما يهون من تجاهل المصلحة المشتركة للجميع، والتهاون في تنقية بيئة السلام لليمن.
نقلاً عن العربية نت