هند سلمان
بعد نحو عقد من توظيف تركيا لجماعة الإخوان المسلمين وعناصرها في العديد من الدول العربية كأداة لبسط سيطرتها على موارد الطاقة وتوسيع نفوذها في تلك البلدان، ولا سيّما ليبيا وسوريا، شهدت السياسة الخارجية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تحوّلات جذرية، فبعد الدفاع المستميت عن مصالح الجماعة وصلت إلى حدّ العداء مع دول الجوار والمنطقة ولا سيّما مصر، بدت أنقرة مستعدة للتضحية بعناصر جماعة الإخوان في مقابل استعادة العلاقات الطبيعية مع مصر ودول المنطقة، بما في ذلك “إسرائيل”.
والمراقب للتحركات التركية الأخيرة في ليبيا وشرق المتوسط قد يدرك أنّ أنقرة، وإن تخلت عن الإخوان، فلن تتخلى عن حلمها بالسيطرة على مكامن الغاز في شرق المتوسط وصناعة القرار في ليبيا، الغنية بموارد النفط والغاز وطوق النجاة لدول العالم في ضوء الصراع المستعر بين روسيا وأوكرانيا وخطط الاتحاد الأوروبي التخلص من الاعتماد على روسيا كمصدر رئيسي للغاز والنفط، ففي الأسبوع الماضي رفضت تركيا طلباً من العملية البحرية الأوروبية في شرق المتوسط “إيريني” لتفتيش سفينة “كوسوفاك” التركية قبل توجهها لميناء مصراتة الليبي. ويشتبه أنّ السفينة التركية تحمل سلاحاً للميليشيات والمرتزقة الذين نقلتهم تركيا إلى الأراضي الليبية، في خرق واضح للحظر الأممي على تسليح ليبيا، غير أنّ معدلات نقل السلاح والمرتزقة قد تبدو هادئة نسبياً مقارنة بنهايات 2020 بالتزامن مع توقيع اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر واليونان في تشرين الأول (أكتوبر) 2020.
مثّل توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان نقطة تحول في السياسة التركية، وقد قضت الاتفاقية على أطماع أنقرة في منطقة شرق البحر المتوسط الغنية بالموارد الطبيعية وعلى رأسها الغاز الطبيعي، ومحاولاتها رسم حدود بحرية زائفة وغير موجودة بينها وبين ليبيا باتفاق غير دستوري مع السلطات الليبية المؤقتة بقيادة فائز السراج، ومن دونه من بطانة إخوانية التي مهدت الطريق لعدد من الاتفاقيات غير الدستورية لتسهيل استيلاء تركيا على مقدرات الشعب الليبي.
وبعد شهور من توقيع الاتفاقية المحورية بين مصر واليونان، سارعت تركيا إلى المصالحة مع مصر في مطلع 2021، الأمر الذي رهنته مصر بوقف الدعم التركي لجماعة الإخوان المسلمين، ووقف بث القنوات الإخوانية من الأراضي التركية، وتسليم عدد من عناصر الإخوان الهاربين في تركيا. ولم تفكّر أنقرة كثيراً في التضحية بالإخوان المسلمين مقابل الحفاظ على بعض المكاسب التي حققتها على الأرض في ليبيا.
وفي هذا الصدد، رأى مركز الإمارات للسياسات أنّ التحوّل الملحوظ في السياسة الخارجية التركية يطرح تساؤلاً مركزياً حول علاقة أنقرة بجماعة الإخوان المسلمين، والتي لم تكُن خلال العشرية الماضية، منذ بداية الثورات العربية، حليفاً لنظام الرئيس رجب طيب أردوغان فقط، وإنّما كانت جزءاً مهمّاً من السياسة الخارجية التركية.
وفي ظل هذا التغيُّر تشير مؤشرات عديدة إلى تحولات ستطال هذه العلاقة التاريخية بين الجماعة والنظام التركي، ممّا سيكون له تأثيرات على الجماعة الدينية وتيار الإسلام السياسي.
تبعية وظيفية
رصد المركز الإماراتي مسار العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين وتركيا، موضحاً أنّ العلاقة بين حزب العدالة والتنمية الإسلامي التركي وجماعة الإخوان المسلمين وفروعها مَرَّت بمراحل متفاوتة من التحالف والنفور، فقد شهد تيار الإسلام السياسي التركي في العام 2002 أزمة داخلية بعد انقلاب 1997 الذي أطاح بحكومة نجم الدين أربكان، زعيم حزب الرفاه الإسلامي، ودفعت الحلقة المفرغة من التأسيس والحظر، التي تعرضت لها الأحزاب الإسلاموية، قطاعاً شبابياً واسعاً داخل تيار أربكان إلى البحث عن خطاب جديد لضمان الوجود السياسي على الساحة، وفي العام 2002 انشقت مجموعة يقودها رجب طيب أردوغان وأحمد داود أوغلو وعبد الله غول لتؤسس حزب العدالة والتنمية، وأعلنت تمسُّكها بالنظام العلماني الذي أرسى دعائمه مصطفى كمال أتاتورك، بما في ذلك المؤسسة العسكرية القوية.
ووفقاً لتحليل المركز، الذي أعده الباحث في حركات الإسلام السياسي والتنظيمات المتطرفة، أحمد نظيف، وحمل عنوان “المسارات المستقبلية للعلاقة بين تركيا وجماعة الإخوان المسلمين”، دفعت هذه الخطوة جماعة الإخوان المسلمين إلى دعم الممثل التاريخي للإسلام السياسي في تركيا نجم الدين أربكان في مواجهة أردوغان ورفاقه. لكنّ علاقة النفور هذه ما لبثت أن تحوّلت إلى علاقة دعم بعد صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وقد تزامن ذلك مع صعود سردية أمريكية جديدة في أعقاب أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 قادتها مراكز أبحاث ونخب تشجع الحركات الإسلامية ـ التي تصفها بالمعتدلة ـ باعتبارها الأقدر على هزم التيارات الجهادية العنيفة.
وقد وجدت الجماعة في حزب العدالة والتنمية التركي نموذجاً لهذا التوجه الذي تشجّعه الإدارة الأمريكية، وأصبحت بعض فروعها، لاسيّما في تونس (حركة النهضة)، والمغرب (العدالة والتنمية)، ترى في النموذج التركي إطاراً تنظيمياً وسياسياً ملائماً للسياق العالمي الجديد. وقد تعزز ذلك بقوة بعد صعود باراك أوباما إلى السلطة، لتتحوّل أنقرة إلى حليف ملهم لجماعة الإخوان المسلمين، لكنّها في الوقت نفسه حافظت على نوع من توازن العلاقات مع الأنظمة العربية التي تحظر نشاط الجماعة، مثل تونس وسوريا ومصر وليبيا، حيث اشتغلت السياسة الخارجية التركية في ذلك الوقت وفق نموذج “الصفر مشاكل تجاه الجيران”، الذي صاغه وزير الخارجية أحمد داود أوغلو، الذي يقوم على رؤية جديدة لأنقرة في الشرق الأوسط، بعد عقود طويلة من الانكفاء.
فشل جماعة الإخوان المسلمين في تطبيق مشروعها الاستراتيجي للتمكين في أعقاب الثورات العربية، ساهم في إفشال الحلم التركي بالتوسع في المنطقة وتوسيع مجال نفوذ أنقرة الاستراتيجي كما خُطِّطَ له، على حدّ قول المركز، غير أنّ هذا التوازن بين علاقات أنقرة الرسمية بالأنظمة العربية، وعلاقتها بجماعة الإخوان المسلمين وفروعها، ما لبث أن عصفت به الثورات العربية في العام 2011، فقد توجهت تركيا نحو القطع مع سياسة “صفر مشاكل” والانخراط المباشر في قضايا المنطقة من خلال دعم الاحتجاجات الشعبية وفَضّ التحالفات القديمة في سوريا وليبيا وتونس ومصر.
وبحسب التحليل، وجدت تركيا في هذه الثورات فرصة لتحقيق مصالح أكبر ممّا كانت تحققه مع الأنظمة المستقرة، ووجدت في جماعة الإخوان المسلمين البديل الأمثل لهذه الأنظمة لجهة التقارب الإيديولوجي بينهما، وكذلك -وهو الأهم- لجهة توافق المشروع الاستراتيجي للجماعة “التمكين” مع المشروع الاستراتيجي التوسعي لحزب العدالة والتنمية ورئيسه رجب طيب أردوغان المعرف بـ”العثمانية الجديدة”، الذي عبَّر عن نفسه بشكل واضح مع تصاعُد الاضطرابات في الشرق الأوسط من خلال جملة من عمليات التدخل العسكري المباشر في سوريا وليبيا والعراق، والتوسُّع الاستراتيجي في القرن الأفريقي والخليج العربي، ومحاولات توسيع النفوذ الاقتصادي والثقافي في تونس والجزائر وغرب أفريقيا والسودان، والقطيعة السياسية مع مصر والإمارات والسعودية.
وهذا التحول في السياسات الخارجية للنظام التركي تزامن مع انعطافة جذرية في مسار تطور التشكيلات الاجتماعية الموالية لحزب العدالة والتنمية، إذ شهد فكَّاً للارتباط بين الحزب وحركة الخدمة بقيادة فتح الله غولن، بعد تفجُّر قضايا الفساد التي تتعلق ببعض الوزراء وعائلاتهم، وخسارة الحزب لقطاعات واسعة من القاعدة الاجتماعية الليبرالية ليقترب أكثر من نموذج الجماعة الشمولية، كما هو الحال لدى تنظيمات الإخوان المسلمين، وفقاً للباحث أحمد نظيف.
خلال هذه المرحلة، استفادت جماعة الإخوان المسلمين وفروعها المختلفة من دعم تركي غير مسبوق، حيث تحوّلت تركيا إلى ملجأ لقيادات وأعضاء الجماعة المصرية، وكذلك للقيادات الإخوانية الملاحقة من دول الخليج واليمن، وقاعدة عمليات مفتوحة للجماعة الإسلامية السورية ونظيرتها الليبية، حيث تدخلت أنقرة بشكل مباشر سياسياً وعسكرياً، كما حظيت الفروع الإخوانية في أوروبا وأمريكا الشمالية بدعم سياسي ومالي تركي واسع في مقابل استفادة تركيا من خلال هيمنة جماعة الإخوان وفروعها على جزء من الساحة العربية سياسياً واقتصادياً واستراتيجياً ، حيث نجحت من خلال المجموعات الإسلامية الليبية التي سيطرت على العاصمة طرابلس والحكومة المعترف بها دولياً في جني مكاسب اقتصادية كبيرة، وكذلك في توقيع اتفاقيات أمنية وحدودية استراتيجية بالنسبة إليها في حوض المتوسط، وكسب مواقع حضور إستراتيجي في شمال أفريقيا.
والشأن نفسه بالنسبة إلى حزب حركة النهضة في تونس، الذي ساعد الجانب التركي على توسيع نفوذه التجاري والثقافي في البلاد طيلة عشرية كاملة من الهيمنة على السلطة، على حدّ وصف نظيف.
وفي السودان، على عهد نظام عمر البشير الإخواني، وقَّعت تركيا والخرطوم اتفاقيات تعاون إستراتيجية، لا سيّما المتعلقة بالوجود التركي في جزيرة سواكن. واستفادت أنقرة من دعم الجماعات الإسلاموية في أوروبا ضمن إدارة صراعاتها مع بعض الدول الأوروبية، لا سيّما الصراع مع باريس في العام 2020، وبرلين قبل توقيع اتفاق اللاجئين في العام 2016. وفي سوريا نجحت من خلال الميليشيات الإسلامية الموالية لها في احتلال أجزاء واسعة من الشمال السوري، ومحاصرة خصومها الأكراد.
دوافع تحوّل علاقة تركيا بالإخوان
بعد هذا المسار من التحالف بين جماعة الإخوان المسلمين والنظام التركي، الذي تحوَّل إلى علاقة تبعية وظيفية، يبدو أنّ العلاقة بين الجماعة وأنقرة ذاهبة نحو تحوّل معاكس، لا يمكن حتى الآن وصفه بالجذري، ولكنّه يبقى مفتوحاً على كلّ الاحتمالات الممكنة مستقبلاً، ولعل أبرز مؤشرات هذا التحول، وفقاً لتحليل المركز، هي:
التقارب التركي مع مصر والإمارات والسعودية، حيث تشهد علاقات أنقرة بالعواصم العربية التي كانت معها على خلاف كبير، لا سيّما القاهرة وأبو ظبي والرياض، تحسُّناً كبيراً منذ أقل من عام، فخلال هذه الفترة القصيرة نجح أردوغان في تجسير الهوّة الكبيرة بين بلاده من جهة، والمحور السعودي الإماراتي المصري من جهة أخرى، على الضدّ من توجهاته السابقة التي كانت متناسقة مع توجهات حلفائه الإخوان المسلمين.
ومنذ العام الماضي، شرعت أنقرة في مسار تطبيع العلاقات مع مصر بعد أعوام من القطيعة. ونهاية العام الماضي عززت تركيا علاقاتها مع الإمارات بعد جفاء لأعوام، وأعلنت أبوظبي عن إنشاء صندوق استثماري بقيمة (10) مليارات دولار لدعم الاقتصاد التركي. وفي نيسان (أبريل) الماضي زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المملكة العربية السعودية، في مسعى لإعادة علاقات بلاده بالرياض إلى طبيعتها بعد خلافات زادت حدتها منذ مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في تشرين الأول (أكتوبر) 2018. هذا التقارب التركي مع خصوم جماعة الإخوان المسلمين مؤشر واضح على تحوّل في العلاقة بين الطرفين على نحو مغاير لما كانت عليه طيلة العشرية الماضية.
انحسار مساحة الدعم والإيواء لجماعة الإخوان: تزامَنَ التقارب التركي مع المحور السعودي الإماراتي المصري مع تقليص أنقرة لمساحة الدعم والإيواء التي منحتها لجماعة الإخوان المسلمين منذ العام 2013، حيث تحول هذا الملف إلى أداة في يد أردوغان لتحسين علاقته مع الجانب العربي، وفقاً لنظيف الذي قال: “لذا لم يكن من قبيل المصادفة أن تُعلِن قناة مكملين، وهي قناة تلفزيونية تابعة للإخوان المسلمين ومقرها إسطنبول، أنّها أوقفت عملياتها في تركيا، وأنّها بصدد نقل مقرها إلى دولة أخرى، وذلك بالتزامن مع زيارة الرئيس التركي إلى الرياض.”
جاء هذا الإعلان بعد قرابة عام من مطالبة قنوات تلفزيونية تابعة للإخوان ومقرها تركيا بالتوقف عن انتقاد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وعُلِّقَ العديد من برامج الصحفيين التي تنتقد السياسات المصرية. ورغم ترحيب الجانب المصري بهذه الخطوة، إلا أنّ القاهرة تشدد على ضرورة الإغلاق الدائم للقنوات التلفزيونية التابعة للإخوان المسلمين، كما تشير تقارير إعلامية إلى أنّ أنقرة أجبرت بعض الشخصيات البارزة في جماعة الإخوان المسلمين على مغادرة تركيا، من خلال عدم تمديد تصاريح إقامتهم.
وفي هذا السياق، أعلن الناشط البارز في جماعة الإخوان المسلمين، ياسر العمدة، في نيسان (أبريل) الماضي، أنّ السلطات التركية طلبت منه مغادرة البلاد بعد رسالته المصورة بالفيديو التي دعا فيها الشعب المصري للنزول إلى الشوارع.
ورأى نظيف أنّ طبيعة العلاقات المستقبلية بين الإخوان ونظام أردوغان ستخضع لظروف موضوعية تتعلق أساساً بنتائج الانتخابات التركية المقبلة، ومدى قدرة الرئيس أردوغان وحزبه العدالة والتنمية على البقاء في الحكم”، مشيراً إلى أنّ “هذا التحوّل التدريجي في العلاقة بين تركيا وجماعة الإخوان المسلمين، الذي يتجلى من خلال مؤشرات واضحة، يبدو مدفوعاً بسببين رئيسين يتعلقان بالوضع الذاتي لكلّ طرف، ويلتقيان ضمن السياق العام الذي مرت به المنطقة خلال العشرية الأخيرة:
أوّلاً: فشل مشروع التمكين وأزمة الجماعات الإخوانية؛ ذلك ّأن فشل جماعة الإخوان المسلمين في تطبيق مشروعها الاستراتيجي للتمكين في أعقاب الثورات العربية أسهم في إفشال الحلم التركي بالتوسع في المنطقة، وتوسيع مجال النفوذ الإستراتيجي لأنقرة كما كان مخططاً له، فقد فشلت الجماعة في الحفاظ على السلطة في مصر، وخرجت مفككةً من تجربة الحكم بعد 2013، والأمر نفسه حصل في السودان، حيث أطاحت الثورة الشعبية بنظام عمر البشير في 2019. وفشلت الجماعات الإسلامية الموالية لأنقرة في تثبيت وجودها وسيطرتها في ليبيا وسوريا، وكان آخر مسارات الفشل قد ظهرت في تونس بعد خروج حركة النهضة من السلطة في أعقاب إعلان الحالة الاستثنائية من طرف الرئيس قيس سعيّد. هذا الفشل جعل النظام التركي يكفّ عن المراهنة على الجماعة بوصفها حليفاً وأداةً في الوقت نفسه للتوسُّع والهيمنة في المنطقة العربية. فقد أدركت أنقرة أنّ القوى التي صعدت بعد 2011، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، قد فقدت قوتها وتعرَّض مشروعها لهزيمة سياسية سيكون من صعب معها أن تواصل في المسار نفسه من المواجهة مع القوى التي حسمت الصراع، وعلى رأسها المحور السعودي الإماراتي المصري.
ثانياً: أزمة النظام التركي الداخلية، ولعلّ هذا الدافع هو الأبرز في هذا التحول، حيث دخلت تركيا منذ (3) أعوام في أتون أزمة اقتصادية غير مسبوقة، وأزمة سياسية تجلت في تآكل القاعدة الاجتماعية والشعبية للنظام الحاكم، دفعت بالرئيس أردوغان إلى إيقاف نهج الصدام الذي كلّف الاقتصاد التركي خسائر كبيرة، والعودة إلى سياسات الصفر مشاكل مع الجيران، من خلال تطبيع العلاقات مع الجيران العرب وإسرائيل والاتحاد الأوروبي، بحثاً عن فرص استثمارية جديدة يمكن أن تنقذ الاقتصاد التركي من أزمته العميقة. لذلك توجه أردوغان نحو التضحية بعلاقاته العميقة مع جماعة الإخوان لإنقاذ نظامه، خاصة أنّ البلاد على أبواب انتخابات تشريعية ورئاسية غير مضمونة النتائج بالنسبة إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم.
المسارات المتوقعة
قبل محاولة حصر المسارات المستقبلية الممكنة لطبيعة العلاقات بين جماعة الإخوان المسلمين والنظام التركي، لا بدّ من الإشارة، أوّلاً، وبوضوح، إلى أنّ الروابط التي تجمع الطرفين ليست مجرد روابط سياسية خاضعة للمصالح فقط، وإنّما روابط أيديولوجية فكرية تتجاوز المصلحة الوقتية إلى التلاقي الإستراتيجي في رؤية العالم، لذلك يجب الوعي دائماً بأنّ أيّ مسار للعلاقة بين الطرفين مستقبلاً لن يصل إلى القطيعة النهائية، بحسب نظيف، الذي أضاف: “ثانياً، ستكون طبيعة العلاقات المستقبلية بين الطرفين خاضعة أيضاً لظروف موضوعية تتعلق أساساً بنتائج الانتخابات التركية المقبلة، ومدى قدرة الرئيس أردوغان وحزبه العدالة والتنمية على البقاء في الحكم، لذلك فإنّ مسارات العلاقة لن تكون واحدة، بل متعددة على اختلاف طبيعة ظروف كلّ فصيل إخواني، حيث سيكون مسار العلاقة مع الجماعة المصرية الأم رهين صلابة العلاقات الجديدة مع القاهرة، التي تطالب بوقف جميع نشاطات الجماعة من تركيا.”
وتابع نظيف أنّ أنقرة أصبحت “مقتنعة بأنّ المعارضة الإخوانية في المنفى كانت حصاناً خاسراً لم يعد من الممكن استخدامه في مواجهة النظام المصري، لكنّ التقارب بين أنقرة والقاهرة سيضعف بشكل كبير جناح الجماعة في إسطنبول، ممّا سيؤدي إلى ترجيح كفة الميزان لصالح القادة المقيمين في لندن. وقد يكون هذا مناسباً لأنقرة للتخلص من عبء الجماعة، حيث سيكون من مصلحتها ألّا تكون قيادة الجماعة على أراضيها، ولكنّها في الوقت نفسه تريد تجنُّب الظهور بمظهر الخيانة”.
واستطرد نظيف بالقول: إنّ العلاقة “فوق السياسية” بين أنقرة وجماعة الإخوان تجعل من المستبعد قطع الروابط نهائياً بين الطرفين، وفي أقصى الحالات سيتعلق الأمر بخفض الدعم التركي للجماعة مع بقاء روابطهما قائمة، أمّا مسار العلاقة مع المجموعات الإخوانية في ليبيا، فلن يكون كما في السابق قائماً على الدعم العسكري المباشر، بقدر ما ستحاول أنقرة الحفاظ على دعم سياسي للجماعة في طرابلس لاعتبارات اقتصادية، حيث تشكّل ليبيا إحدى الفرص الاقتصادية التي لا يريد أردوغان خسارتها، ولكنّ هذه المكاسب ستكون جزئية في ظلّ الضعف السياسي الذي يعاني منه الفرع الإخواني في ليبيا، وكذلك في ظلّ وجود فاعلين آخرين على الساحة. في المقابل ستكون أنقرة مضطرة إلى رفع دعمها عن المجموعات الإخوانية السورية في حال توجهت نحو تطبيع العلاقات مع نظام الرئيس بشار الأسد، وسط مؤشرات بوجود هذا التوجه.
واختتم الباحث بالقول: إنّه “في حين أنّه ما يزال من غير الواضح إلى أيّ مدى ستذهب تركيا في تقليص دعمها لجماعة الإخوان المسلمين، فمن الواضح أنّها مهتمة بزيادة الاستثمار السعودي والإماراتي في اقتصادها، ومهتمة بتطبيع العلاقات مع القاهرة. ومع أنّ جميع الأطراف مستعدة للتخفيف التدريجي للتصعيد من أجل الاستفادة اقتصادياً، لكن سيظل الحذر قائماً بسبب وجود قضايا الخلاف المركزية، وأبرزها علاقة أنقرة بجماعة الإخوان المسلمين، وكذلك وجودها العسكري في ليبيا وسوريا. وأيضاً بسبب السوابق التاريخية لأردوغان في تحويل سياساته الخارجية بشكل جذري ومفاجئ، لهذا فإنّ العلاقة فوق السياسية بين أنقرة والجماعة تجعل من المستبعد قطع الروابط مع الإخوان المسلمين، وفي أقصى الحالات سيتعلق الأمر بخفض الدعم مع بقاء الروابط قائمة.”
المصدر : حفريات