محمد أبوالفضل
أثارت إشارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى موقف من عصر النبي محمد (ص) وموقف آخر خلال عهد النبي يوسف (ص)، على هامش افتتاحه لمشروع مستقبل مصر للإنتاج الزراعي قبل أيام، العديد من التأويلات والتحليلات بشأن فحوى الخطاب الديني ومغزاه في أحاديثه وتصريحاته.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يأتي فيها السيسي على ذكر موقف تاريخي وتوظيفه في قضايا اقتصادية واجتماعية وسياسية، لكن في هذه المرة كان الاهتمام لافتا على مواقع التواصل الاجتماعي ومس وترا حساسا يتعلق بالأزمة الغذائية في مصر.
عندما أشار الرئيس المصري إلى واقعة حصار الرسول والصحابة في شعاب مكة لثلاثة أعوام واضطرارهم إلى أكل ورق الشجر، فهم مصريون أن البلاد مقبلة على مجاعة أو أيام أشد صعوبة وعليهم الاستعداد للأسوأ، وهو استنتاج غير دقيق، ففي أثناء الكلام استدرك قائلا “لا تفهموني خطأ”، كأنه أدرك ما يمكن أن تذهب إليه التفسيرات من نتائج سلبية غير مقصودة من جانبه.
جاءت الواقعة الثانية في المناسبة نفسها، وتتعلق بالتفكير في الاقتداء بالنبي يوسف في عملية تخزين القمح في سنابله للحفاظ على جودته، وهي إشارة مقتبسة من القرآن لا تتماشى مع آليات وخطوات اتخذتها الدولة لتخزين القمح في صوامع.
جددت الإشارتان حديثا تواتر عن ملامح التدين في خطاب الرئيس السيسي، والذي يراه البعض ينطوي على تناقض مع طلبه المستمر من شيخ الأزهر تجديد الخطاب الديني وتنقيح التراث، وتقويض مساحة الحركة أمام المتشددين، بينما هو في الحقيقة يعكس تدينا ليّنا ينسجم مع الحالة العاطفية من التديّن الظاهر لدى غالبية المصريين.
يلجأ السيسي إلى مخاطبة شعبه أحيانا بمسحة دينية ويضرب لهم أمثلة من التراث مستشهدا بالقرآن والأحاديث النبوية لتقريب المسافات بينهم وبين مؤسسة الرئاسة المصرية والوصول إلى قلوبهم مع عقولهم، مستخدما خطابا يروق له ولهم للتفاهم.
بدأ هذا الاتجاه يجلب بعض المشكلات ويحمل إسقاطات اقتصادية، ويقود إلى مقارنات سياسية متعددة بين الحالة التي عاشها الصحابة في عهد الرسول وتلك التي يعيشها المصريون في عهد السيسي، ففي الأولى كان الزهد طاغيا لدى الجميع، وفي الثانية يبدو الترف والرفاهية والبذخ سائدا بين فئة من المواطنين، إلى جانب إنكار ضمني لما يحتويه التقدم من وسائل تخزين عصرية لم تكن متاحة في عهد النبي يوسف.
يوقع تكرار هذه النوعية من الإشارات، بصرف النظر عن كونها مقصودة أم لا، الرئيس السيسي في مطبات سياسية، خاصة إذا انحرفت التفسيرات عن سياقاتها.
ويؤثر التحريف والتضخيم المبالغ فيهما على فحوى الرسالة التنموية التي صاحبت افتتاح مشروع مستقبل مصر للإنتاج الزراعي، فقد جرى تجاهل ما يحمله من جهود كبيرة وإمكانيات واعدة، وقامت شريحة من المواطنين بصب اهتمامها على المواقف التراثية، بما أحدث تشويشا على مشروع مهم، وجلب حصيلة سلبية غير متوقعة.
من الملاحظ أن الرئيس المصري يلجأ إلى الدين في بعض خطاباته ويسوق مواقف دالة على الفكرة التي يريد توصيلها عندما يتحدث بصورة عفوية، أو إذا كان يريد الرد على بعض الشائعات أو توصيل رسالة بسيطة إلى المواطنين، وكلها عناوين لن تفيد السياسة التقليدية في إصابة الهدف مباشرة، فيكون التديّن بالغريزة وسيلة ومنقذا.
يميل الرئيس السيسي بطبعه إلى التديّن، وهو ما كشفته حلقات مسلسل “الاختيار 3” الذي عرض في رمضان الماضي وتناولت أحداثه شخصيته العسكرية المنضبطة ودوره السياسي وقت أن كان وزيرا للدفاع في عهد الرئيس الإخواني محمد مرسي، ومن خلالهما استشعر المشاهدون التزامه بالصورة التي يبدو عليها القطاع الكبير من المصريين، وتتمحور حول ممارسة الشعائر الدينية بشكل منتظم بلا افتعال أو تسييس.
سهّلت المظاهر الدينية التي عرفت عن السيسي قبول الإخوان به كوزير للدفاع بدلا من المشير محمد حسين طنطاوي الذي مكث في موقعه نحو عقدين، ورجحت كفة السيسي في حسابات الإخوان بناء على قناعتهم أنه “ضابط ملتزم دينيا”، وهو الوصف الذي درجوا على استخدامه عندما حاولوا تمرير تعيينه أمام كوادرهم.
يدرك قادة الإخوان جيدا أن هذه الصفة لا تنحصر في السيسي أو ضباط الجيش، بل تكاد تكون منتشرة بين عموم المصريين من طبقات وظيفية مختلفة ودرجات علمية متباينة وشرائح اجتماعية متفاوتة، فالغالبية لديها عواطف جياشة نحو الدين.
ربما يكون شيوع صفة التديّن، الكامل أو المنقوص، وبدرجاته التي يغلب عليها اللّين وفرت أرضا خصبة للإخوان لجذب عناصر عديدة إلى التنظيم من خلال التغرير بهم وإيقاعهم في شراك الجماعة، الأمر الذي انتبهت إليه الأجهزة الأمنية بعد سقوط الجماعة في امتحان الحكم، وقامت مؤسسات الدولة بتجفيف منابع الإخوان وركائزها السياسية والأمنية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية وتقليص الأدوات الداخلية التي اعتمدت عليها الجماعة، لأن مؤسسات الدولة لا علاقة لها باجتثاث الدين من القلوب.
على العكس، أكد السيسي حرصا لافتا على احتفاظ المصريين بسماحتهم الدينية، وظهرت تجليات ذلك في الاهتمام بالمساجد والكنائس على السواء، وشهدا رواجا كبيرا مقارنة بأي من العهود السابقة التي كانت تخضع فيها الأديان لمزايدات من المتطرفين والساسة، ويجري توظيفها بطريقة كبيرة لاستمالة المسلمين أو الأقباط.
على مستوى المسلمين جرى بناء أضخم مسجد في العاصمة الإدارية، في شرق القاهرة، وأعيد تجديد الكثير من المساجد في مقدمتها مساجد آل بيت النبي محمد التي تزخر بها منطقة وسط القاهرة، ويستكمل الاهتمام بها منظومة التصوف الضمني في عقل السيسي وشريحة كبيرة من المصريين.
على مستوى الأقباط، حدثت انفراجة كبيرة في عهد السيسي وتمت تسوية إشكاليات عديدة تتعلق ببناء الكنائس وتراخيصها وعمليات تجديدها، وتجاوز الكثير من العقبات التي قيدت ذلك من قبل، بما يعني أن التديّن الفطري غريزة لدى المسلمين والأقباط في مصر.
تديّن السيسي أقرب إلى تديّن الصوفي العارف بتعاليم الله من دون إفراط أو تفريط، وهذه الصفة جعلته يلح دائما إلى البعد عن التطرف ومكافحته، ومكنته هذه السمة من الصمود أمام صلف جماعة الإخوان والتيارات الإسلامية التي تتبنى العنف كوسيلة لتطبيق ما يراه هؤلاء من تعاليم دينية استنادا إلى تفسيرات خاطئة.
تأتي الأزمة مما يلمسه البعض من تعارض نسبي في خطاب السيسي، ففي الوقت الذي يدعو فيه إلى دولة مدنية ديمقراطية عصرية، يسترجع مواقف مرت عليها قرون طويلة، وفي الوقت الذي خاض فيه الرئيس حربا ضارية ضد المتشددين وقضى على مفاتيحهم الرئيسية التي اعتمدوا عليها يستشهد بروايات تتواءم مع مزاجهم العام.
في كل الحالات يؤكد الخطاب الديني للسيسي أنه حريص على أن يفرز المجتمع نخبته النقية البريئة بدلا من أن تسيطر عليه جماعة تحرف الدين لتحقيق أهداف سياسية.
نقلاً عن العرب اللندنية