رام الله – نائلة خليل
تعود المواجهة بين الفلسطينيين والاحتلال كما بدأت أول مرة؛ معركة وجود ودفاع عن الهوية يخوضها الفلسطيني كل يوم منذ احتلال أرضه عام 1948، لكنها هذه الأيام تعود على شكل “معركة العلم”، وهي معركة قديمة جديدة لم تتوقف.
غير أنّ الفصل الحالي من المواجهة يعكس معركة الوجود بين الفلسطينيين والمستوطنين، الذين يجسدون الصهيونية الدينية وباتوا يسيطرون على الضفة الغربية تحت حماية جيش الاحتلال، وهم أصحاب فكرة “مسيرة الأعلام” السنوية في القدس المحتلة التي صادفت الأحد الماضي.
قبل اتفاق أوسلو 1993، كان رفع العلم الفلسطيني واحداً من الأعمال البطولية التي تتطلب تخطيطاً وتنفيذاً بعيداً عن أعين الاحتلال وعملائه، وتكلّف منفذها الملاحقة والسجن مدة تتراوح ما بين ستة أشهر سجناً فعلياً كحد أدنى، وثلاث سنوات مع وقف التنفيذ مع غرامة مالية.
“معركة العلم” تجسدت بشكل واضح خلال تشييع الشهيدة الصحافية شيرين أبو عاقلة في القدس المحتلة، في 13 مايو/أيار الماضي، حيث راقب العالم عبر الكاميرات، خلال نقل حي ومباشر، كيف قمع جنود الاحتلال الفلسطينيين المشيعين الذين يحملون العلم الفلسطيني بالضرب والملاحقة، سواء عند انطلاق الجنازة من أمام المستشفى الفرنسي أو في باب الخليل الذي شهد ساعات قليلة من السيادة الفلسطينية الكاملة، حيث رُفع فيها العلم الفلسطيني رغم كل القمع الإسرائيلي.
تدحرجت “معركة العلم”، أو “موسم الأعلام” كما يطلق عليه السياسيون والمتابعون، من القدس المحتلة إلى جميع أنحاء الضفة الغربية حالياً، والتي تشهد رفع العلم الفلسطيني بشكل شبه يومي، مع الصراع على إزالته من قبل المستوطنين، وتحديداً في مناطق التماس والمناطق المصنفة “ج” التي ينهشها الاستيطان الإسرائيلي.
وامتدت “معركة العلم” من شمال الضفة الغربية في بلدة حوارة بمحافظة نابلس إلى جنوبها في مخيم العروب بمحافظة الخليل، حيث اعتدى جنود الاحتلال على جنازة الشهيدة غفران وراسنة لرفع المشيعين العلم الفلسطيني الخميس الماضي، وحتى مسافر يطا التي صدر أمر بمصادرة أراضيها لصالح المستوطنين، لتشمل المعركة جميع الطرق التي يسيطر عليها الاحتلال ويستخدمها المستوطنون يومياً للتنقل بين المستوطنات، في معركة وجود علنية على الهوية الفلسطينية من جهة، وعلى ما تبقى من أرض في الضفة الغربية لم تبتلعها المستوطنات.
ولشرعنة قمع الفلسطينيين، مررت سلطات الاحتلال قانوناً في الكنيست الإسرائيلي يعتبر رفع العلم الفلسطيني “جريمة يحاسب عليها القانون”.
ويقول الكاتب والمحلل عادل شديد لـ”العربي الجديد”: “الأربعاء الماضي، مررت سلطات الاحتلال مشروعاً في الكنيست الإسرائيلي بالقراءة التمهيدية الأولى ووافق عليه 63 نائباً (من أصل 120)، ومضمونه تجريم رفع علم فلسطين على كل المؤسسات التي تحصل على تمويلها أو جزء منه من حكومة إسرائيل، بما فيها الجامعات والمعاهد الإسرائيلية”، مشيراً إلى أنّ القانون قدّمه “حزب الليكود”، في ظل تغيب وزير الخارجية يئير لبيد “الذي لا يعرف كيف سيبرر الأمر أمام العالم لتجريم علم دولة قام بالتوقيع على اتفاقية معها، أي منظمة التحرير الفلسطينية”.
ويتابع شديد: “عندما يلتقي رئيس الحكومة الإٍسرائيلية بمسؤولين فلسطينيين وعلى رأسهم الرئيس محمود عباس، كان يُرفع العلم الفلسطيني إلى جانب العلم الإسرائيلي”، مشدداً على أنّ موضوع رفع العلم “مهم جداً في ظل عدم وجود الفعل الفلسطيني الملائم لهذه القرارات الإسرائيلية، حيث تحوّلت السلطة إلى دائرة إعلامية تنشر وتنقل ما يقوم به الإسرائيليون وأحياناً بطابع تحليلي بعيداً عن الفعل، بالتالي أصبح كل شيء متوقعاً من حكومة الاحتلال”.
ووفق شديد، فإنّ هذا القانون “يوضح مسألة مهمة جداً، وهي أنّ إسرائيل تنظر إلى العلم الفلسطيني على أنه إعادة إحياء للهوية الوطنية الفلسطينية الجامعة، بعدما اعتقدت إسرائيل في السنوات الماضية أنها استطاعت أن تفكك المجتمع الفلسطيني والجغرافية، وأنها أوصلت الفلسطينيين إلى حالة من التفسخ والتشتت التي سرعان ما ثبت عدم صحتها في معركة سيف القدس في مايو/أيار من العام الماضي، حيث وحّدت هذه المعركة الفلسطينيين على كامل التراب الفلسطيني، وكان العلم الفلسطيني أحد تعبيرات هذا المشهد، ورفع الطلبة الفلسطينيون علم فلسطين داخل الجامعات الإسرائيلية، وكذلك في الشوارع وعلى السيارات وفي كل مكان”.
معركة “العلم” وصلت إلى أماكن ظن الاحتلال أنه تم “تدجينها” أو إخراجها خارج قائمة أماكن الاشتباك الساخنة، وتحديداً بعد اتفاق أوسلو وفي ظل سلطة فلسطينية تؤمن بالتعايش وتنظم لقاءات على أعلى المستويات مع قيادة الاحتلال بين سياسيين وأمنيين في المؤسسات الرسمية الإسرائيلية والفلسطينية وفي المنازل، مثل بلدة حوارة جنوبي نابلس، وفيها شارع رئيسي حيوي يستخدمه الفلسطينيون والمستوطنون ويربط شمالي الضفة بوسطها، ويحوي عشرات المحال التجارية التي علّقت يافطاتها بالعربية والعبرية لأنها تستقبل المستوطنين كزبائن.
خلال الأسبوعين الماضيين، أصبحت حوارة نقطة اشتباك ساخنة، بعد رفع العلم الفلسطيني فيها عدة مرات من قبل الشبان، وتوقف المستوطنون بسيارتهم في الشارع العام لإزالة العلم والاعتداء على الفلسطينيين بحماية جيش الاحتلال، فيما يصر الأهالي على رفعه مجدداً، كما شرعوا مذاك بشطب وإزالة اللغة العبرية عن لافتات محالهم التجارية.
وفي هذا السياق، يقول الناطق باسم حركة فتح في حوارة عواد نجم، لـ”العربي الجديد”، إنّه “خلال الاسبوعين الماضيين، شهدت بلدة حوارة أكثر من 42 اعتداء، طاولت الفلسطينيين ومنازلهم والمحال التجارية والسيارات، فضلاً عن اعتداءات لا يمكن حصرها طاولت مركبات فلسطينية خلال مرورها من الشارع الرئيسي للبلدة”.
وتابع نجم: “سجلنا أكثر من 16 حالة اعتقال، أُطلق سراح غالبيتهم، فضلاً عن الاعتداء على منازلهم ومنازل نشطاء (حركة فتح)، منها منزلي الذي تعرض للتهديد من الاحتلال”.
تهديد قوات الاحتلال لبلدة حوارة وصل إلى حد أنّ ضابط المخابرات الإسرائيلية المسؤول عن البلدة أرسل رسائل تهديد إلى هواتف أهاليها، حيث جاء في التهديد الذي وصل إليهم: “سكان حوارة الكرام، نعيش في الأيام الأخيرة حوادث عنف تهدد الهدوء والأمن والأمان والسلام الذي يسود القرية منذ سنوات. نحن نعمل هذه الأيام لإعادة الهدوء والأمان والسلام إلى حالته السابقة. لن نقبل بأي حال من الأحوال أي حالة عنف من أي طرف كان. الآباء الأعزاء، تقع على عاتقكم مسؤولية أفعال أبنائكم، خوفاً على حياتهم الغالية قوموا بالاعتناء بهم ومنعهم من المشاركة في أعمال العنف المحظورة”.
“الهدوء والأمن والأمان”، في كثير من نقاط التماس مثل حوارة، التي يتحدث عنها ضابط (الشاباك) الإسرائيلي، عملت عليها دولة الاحتلال لسنوات، حيث كانت تمارس سياسة “الطوق”، إذ تخنق بلدات ومدناً فلسطينية بعينها وتتيح لأخرى التنفس، لا سيما في مناطق التماس، أي المناطق المتاخمة للمستوطنات.
وبسبب الغياب الكامل للسلطة الفلسطينية في هذه المناطق ولقاء قادتها مع قادة الاحتلال مقابل غض النظر عن أي لقاءات بين شرائح معينة من الفلسطينيين والإدارة المدنية الإسرائيلية، بات من المحظور “وطنياً” و”سياسياً” أن يتسوق المستوطنون في المحال التجارية الفلسطينية في هذه البلدات، أو أن يتناولوا الطعام في المطاعم أيضاً، لتأتي “معركة العلم” وتبدد وهم الهدوء والأمن هذا.
ويوضح الخبير في الشؤون الإسرائيلية عماد أبو عواد، خلال حديث مع “العربي الجديد”، أنّ أكثر من 79% من المستوطنين في الضفة الغربية متدينون، وذلك حسب آخر إحصائيات لحكومة الاحتلال 2021، كما أنّ “غالبية هؤلاء المستوطنين من المتدينين الصهاينة، كما في المستوطنات المقامة على أراضي نابلس والخليل على سبيل المثال، يؤمنون أنّ إقامة دولة الشريعة اليهودية لم يعد ممكناً في داخل إسرائيل، أي الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، ويعتبرون أنّ الضفة الغربية هي المكان الحقيقي لدولة إسرائيل، ولذلك يجب طمس أي علامة للوجود الفلسطيني، لأنّ العلم الفلسطيني يعتبر علامة وجود مرفوضة بالنسبة لهم”.
ويتابع أبو عواد أنّ المستوطنين يعتبرون أنّ الحرب على العلم الفلسطيني هي الحرب على الفلسطينيين أنفسهم، وأنه يجب العمل على ترحيل الفلسطينيين من الضفة الغربية، على اعتبار أنّ الضفة الغربية هي (يهودا والسامرة) أي دولة الشريعة اليهودية للمستوطنين”.
المصدر : العربي الجديد