صالح البيضاني
بعد أن باتت السياسة وقضاياها الشائكة مركزا للصراع الدولي حول المصالح، ومع تحول الفضاء الإعلامي بشقيه الموجه أو ذاك الذي تسوده الفوضى على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى رديف لأحقاد السياسة وخلافاتها، يبدو أن الثقافة أصبحت البوابة الوحيدة التي تؤمّن مرورا آمنا للحوار بين الشعوب والدول وتخطّي حواجز التباينات السياسية والاقتصادية ومخلفات صراع الحضارات.
وقليلة هي الدول في العالم التي أدركت أهمية الثقافة ودبلوماسيتها العابرة للحواجز الجيوسياسية والنفسية والاختلافات الأيديولوجية والدينية، وفي طليعة هذه الدول، دولة الإمارات التي مزجت في سياستها بين دعم التنوع الثقافي وتعزيز ثقافة التسامح، بشقيه الفكري والديني، واستطاعت أن تتحول إلى مركز تنوير ثقافي إقليمي ودولي لا تكاد فعالياته ونشاطاته الثقافية والفنية تتوقف، إلا لتبدأ من جديد.
وقد مثل معرض أبوظبي الدولي للكتاب في نسخته الـ31 عبر برنامجه الغني وندواته المتنوعة وأنشطته الواسعة وفضاءاته المفتوحة، إحدى الصور المكثفة التي تعكس قدرة الإمارات على تفعيل دورها كقوة ناعمة صاعدة استطاعت أن تتميز في دبلوماسيتها الثقافية التي كرستها في دعم نهجها المعلن، القائم على دعم قيم التسامح الإنساني وإزالة التوجس بين الشعوب التي أنهكتها الصراعات السياسية ومزقتها النزاعات العسكرية وعمقت خلافاتها النزعات الأيديولوجية.
وما يميز التجربة الإماراتية في دبلوماسيتها الثقافية الفاعلة، هو أن هذا النهج يأتي مكملا لحزمة من المبادئ العامة التي تبنتها قيادة الإمارات، والتي تقوم على تعزيز مبادئ التسامح الثقافي والديني وتجسير العلاقات بين الشعوب التي هدمتها معاول الصراع السياسي. وكل ذلك يتم وفقا لبرنامج واضح المعالم، منفتح على الآخر وواع بما يريد تحقيقه من غايات تعزز من حضور الإمارات وقوتها الناعمة، كفاعل إقليمي ودولي في ذات الوقت ينشر السلام كطائر يحلق بجناحي الثقافة والاقتصاد.
اهتمام دولة الإمارات بالثقافة ينطلق من إدراك عميق بأهمية هذا العنصر الناعم الذي يضاهي في قوته وجماله معدن “الألماس”
ومن يتتبّع أجندة الأحداث الثقافية والفنية التي تشهدها دولة الإمارات على مدار العام، يدرك أنه أمام ظاهرة ثقافية فريدة في العالم تنصهر فيها كل ثقافات العالم، وتجتذب المبدعين من مشارق الأرض ومغاربها، وتؤسس لفلسفة إنسانية جامعة وشاملة تذوب فيها حدود القطيعة بين الشعوب، ولكنها تحافظ على الخصوصيات التي تخدم التنوع بصورته الخلابة التي تضفي مزيدا من البهاء والوقار على المنجز الثقافي، كقاسم بشري مشترك يوحد القيم الإنسانية السّامية.
ولا شيء باعتقادي لديه القدرة على تجاوز تشوّهات العلاقات السياسية المضطربة بين دول العالم وحمّى الصراعات الاقتصادية المشتعلة مثل الثقافة، فبقدر ما تمد جسور التبادل الثقافي بين الشعوب تزول الحواجز النفسية التي خلفتها السياسة والاقتصاد، وتزول الوحشة التي تخيّم عادة بفعل المعارك الإعلامية التي باتت سمة من سمات العصر.
وينطلق اهتمام دولة الإمارات بالثقافة من إدراك عميق بأهمية هذا العنصر الناعم الذي يضاهي في قوته وجماله معدن “الألماس”، ويحدث في العقل البشري مالا يفعله أيّ شيء آخر عبر تاريخ البشرية، فالثقافة بمفهومها الشامل لم تكن منفصلة يوما عن كل ما يجري على كوكبنا منذ الأزل، والمجتمعات تشكلت داخل أطر ثقافية، قبل أن تتحول إلى تجمعات بشرية عقدت الاتفاقات وخاضعت الحروب، كما أن «الحرب أولها كلام» كما قال الشاعر العربي نصر بن سيار، والكلام هو أبرز أركان الثقافة في أيّ مكون اجتماعي.
ولا تزال الثقافة حتى اليوم ترسم ملامح المجتمعات وتحدد مساراتها، وإن كان الكثير من راسمي السياسات العرب على وجه التحديد يتعاملون معها كمعطى هامشي، غير مدركين لأبعاد العامل الثقافي ودور الثقافة الحاسم في صنع التحولات، ورسم الحدود الجيوسياسية، وهو الأمر الذي فطنت له الإمارات مبكرا وأدركت أهميته في صنع التحولات التي تتجاوز حدود العالم الطبيعية عبر مسار ثقافي يعلي قيم الفن والخير والجمال ويبدد وحشة الصراعات السياسية والحرب العسكرية.
نقلاً عن العرب اللندنية