إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
يعتقد فوستيل دي كولانج (في كتابه المدينة العتيقة) أنّ الدين أنشأ الدولة والمواطنة، وكانت تبعية الدين للدولة مرحلة متأخرة في مسار البشرية، وكان فقدان حق المواطنة هو عقاب الرجل الذي لم يساهم في العمل الديني؛ إذ لا يعود في مقدوره أن يكون عضواً في المدينة.
ولذلك لم يعرف الرومان ولا الإغريق نزاعاً بين الدولة والمؤسسة الدينية، والسبب كما يقول كولانج هو أنّ الدولة في روما وإسبارطة وأثينا كانت الديانة مرجعيتها.
كانت النصوص الدينية سرّاً لا يجوز الاطلاع عليه إلا لفئة محددة، ولا يجوز إفشاؤه إلى أحد وخاصة الأجانب. وحيث إنّ السلطة في الأسرة ملازمة للكهنوت، وإنّ الوالد باعتباره رئيساً للعبادة المنزلية كان في الوقت نفسه قاضياً وسيّداً، كذلك كان كاهن المدينة الأكبر هو أيضاً الرئيس السياسي، فالمذبح هو الذي يمنحه الوظيفة، حسب تعبير أرسطو، وليس في هذا الخلط بين الكهنوت والسلطان ما يثير العجب، فإنّنا نكاد نجده في أصل كلّ المجتمعات، إمّا لأنّه في طفولة الشعب لم يكن يستطيع الحصول على الطاعة سوى الديانة، وإمّا لأنّ طبيعتنا تحسّ بحاجتها لعدم الخضوع إلا لسلطة فكرة خلقية. يقول أرسطو: لملوك إسبارطة (3) اختصاصات: تقديم القرابين، والقضاء، وقيادة الحرب.
كان القانون عند الإغريق وعند الرومان وكذلك عند الهنود في أول الأمر جزءاً من الديانة، وكانت مجموعة قوانين المدينة هي مجموعة من الشعائر والفرائض الدينية والأدعية والنصوص الشرعية في آنٍ واحد، وكانت قواعد حق الملكية وحق الإرث متفرقة بين القواعد الخاصة بالقرابين وبالدفن وبعبادة الموتى.
ندرك من ذلك احترام القوانين والتمسك بها، وهو ما حافظ عليه القدماء زمناً طويلاً.
لم يروا في القوانين عملاً بشرياً، فقد كان لها أصل مقدّس، لم يكن من اللغو أن يقول أفلاطون إنّ إطاعة القوانين هي إطاعة الآله، حيث إنّ القانون كان جزءاً من الديانة، فقد كان له نصيبه من صفة السرّية التي كانت لجميع ديانة المدن، فكانت صيغ القانون سرّاً مكتوماً كصيغ العبادة، كانت مخبأة عن الأجنبي، بل مخبأة عن العامة والحلفاء، ولم يكن ذلك لأنّ البطارقة حسبوا أنّهم يستمدون قوة كبيرة من احتكار تملك القوانين، بل لأنّ القانون بحكم أصله وطبيعته قد لاح لهم زمناً طويلاً سرّاً لا يمكن أن يتلقنه الإنسان إلا بعد أن يكون قد تلقن أوّلاً العبادة القومية والعبادة المنزلية.
كان المواطن يعرف أنّ له نصيباً في عبادة المدينة، ومن هذه المساهمة كان يستمد كلّ حقوقه المدنية والسياسية، فإن تنازل عن العبادة، فقد تنازل عن الحقوق، وكانت الولائم العامة أهم احتفال للعبادة القومية، وفي إسبارطة كان من يتخلف عن الحضور يُحرم من حسبانه بين المواطنين، وكانت كلّ مدينة تفرض أن يشترك كلّ أعضائها في أعيادها وشعائرها الدينية.
ولكي يستطيع الأجنبي المتاجرة والتعاقد والحصول على الأمان يجب أن يكون مولى لمواطن. كانت روما وأثينا تطلب من كلّ أجنبي أن يتخذ وليّاً، وحينها يكون في مقدوره الحصول على الحماية المدنية. وكانت الجمهوريات القديمة تكاد تسمح للمذنب أن يفر من الموت بالهروب من الوطن، فالنفي لم يكن يبدو أخفّ وطأة من الموت، لقد كان الفقهاء الرومان يعتبرونه عقاباً بالإعدام.
كان للمنتصر أن يستغل انتصاره كما يشاء، فما من قانون إلهي أو بشري يوقف انتقامه أو جشعه، واليوم الذي قررت فيه أثينا أن يُباد جميع الميتيلينيين، لم تكن تعتقد أنّها تعدت حقها. وعندما رجعت عن قرارها في اليوم التالي، واكتفت بإعدام (1000) مواطن ومصادرة جميع الأراضي اعتقدت في نفسها الإنسانية والرحمة، وبعد الاستيلاء على بالاتيا ذبح الرجال وبيعت النساء، ولم يتهم أحد الغالبين بأنّهم اعتدوا على الحق.
وبالقضاء على ديانة المدينة تختفي في الوقت نفسه ديانة كلّ أسرة، وتنطفئ المواقد، ومع العبادة تسقط القوانين والشرع المدني والأسرة والملكية وكلّ ما يستند إلى الديانة، ويعلن المغلوب الذي أنعم عليه بالحياة “إنّي أعطي شخصي وبلدتي وأرضي والماء الذي يجري فيها وآلهة تخومي ومعابدي ومنقولاتي وكلّ الأشياء التي للآلهة للمنتصرين.
كان من المعتاد أن تحدد قوانين كلّ مدينة الملابس، فكان تشريع إسبارطة ينظم لباس الرأس للنساء، وتشريع أثينا يحرّم عليهن أن يحملن في السفر أكثر من (3) جلابيب، وكان القانون في رودس يحرّم حلق اللحية، وبالعكس كان يحتم في إسبارطة حلاقة الشارب.
لم يكن أصلب من الأسرة في العصور القديمة، وكانت تتضمن في ذاتها آلهتها وعبادتها وكاهنها وحاكمها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المدينة، التي كانت تتحكم بروح الإنسان وبدنه.
لقد انحسر هذا النظام الاجتماعي الديني بسبب التطور الطبيعي في العقلية الإنسانية، والذي محا العقائد العتيقة، فانهارت معها البيئة الاجتماعية التي أقامتها هذه العقائد، ووجود طبقة من الناس كانت موضوعة خارج نظام المدينة، وكانت تتألم من ذلك، ومن مصلحتها أن تدمره، فحاربته حرباً لا هوادة فيها.
وعندما ضعفت العقائد التي تأسس عليها النظام الاجتماعي، وأصبحت مصالح سواد الناس مناوئة لهذا النظام، كان من المحتم أن يسقط، وما من مدينة نجت من قانون التغيير.
لكنّ العقائد والآثار لا تختفي نهائياً، وإنّما تتحور وتتحول، وتظلّ بقاياها وامتداداتها عبر العصور، ويمكن أن نلاحظ اليوم في حياتنا الدينية والتشريعية حضور الأسرة والمدينة، ودورهما في تحديد المواطنة والحقوق والواجبات، وفي التشريعات والتنظيم الاجتماعي والسياسي للأمم، والحال أنّ اللغة والأسرة والمدينة هي أهمّ ما أنتجت البشرية لتنظيم حياتها وشؤونها، وما زالت هذه المكونات الـ3 تحدّد على نحو حاسم هوية الإنسان ومواطنته ومكانته أيضاً.
نقلاً عن حفريات