طارق عزيزة
كاتب سوري
على الرغم من شيوع تداول مصطلح “الطائفية” وخطورة منطوياته ودلالاته، إلا أنّه ما يزال من نوع المصطلحات الإشكالية التي كُتب ويُكتب فيها وعنها الكثير، وتظهر تعريفات عديدة لها لكن دون التوصل إلى اتفاق على تعريف محدد ونهائي، نتيجة لشدّة ما تتميّز به هذه الظاهرة من تعقيد وتشابك العوامل الظروف التي تنتجها، مع وجود عنصر ثابت في الطائفية هو ارتباطها، وجوداً وعدماً مع عملية تسييس الدين. ولعلّ في هذا القول ما يتوافق جزئياً مع أحد التعريفات المتداولة للطائفية بأنّها “الاستخدام السياسي للدين”، علماً أنّ هناك أشكالاً مختلفة من “الاستخدام السياسي للدين”، والطائفية أحدها.
إنّ نمط التفكير الديني عموماً بما ينطوي عليه من إمكانية التعصّب لعقائد مقدّسة تشكّل الحقيقة المطلقة في نظر معتنقيها، يشكّل تربة ملائمة لظهور الصراعات الدينية أو الطائفية ولا فرق. غير أنّ هذا الكلام سيبقى ناقصاً ما لم يتبعه التأكيد بأنّ الجماعات الدينية على اختلافها، ومهما انقسم أتباعها إلى طوائف ومذاهب متباينة، لن يشكّل أيّ منها عامل تأزيم وتوتّر وصراع مستقل بذاته وبصورة منفردة، وإنما لا بدّ من توفّر شروط موضوعية وأفعال قصدية ترعى بذرة الطائفية وتهيّئ ظروف نموها وإنضاجها في تربة التفكير الديني، ثم سحبها تدريجياً إلى المجال السياسي، بما يؤدّي إلى تفجيره على شكل صراعات مستعصية، تقوم على هوياتية مصطنعة تمتنع معها التسويات السياسية، فتفضي إلى مواجهات دموية وحروب عدمية لا تبقي ولا تذر.
المفارقة أنّ أكثر من يغذي الحالة الطائفية ويستفيد منها في البلدان والمجتمعات العربية بوجه خاصّ، هما الفريقان اللذان يزعمان أنهما خصمان لدودان لبعضهما البعض: أنظمة الاستبداد والأحزاب الدينية – أو بالأحرى الطائفية – التي تعارضها. فالأنظمة الاستبدادية بطبيعتها لا توفّر جهداً أو وسيلة من شأنها إدامة تسلّطها واستبدادها. ولمّا كان أخطر ما يتهدّدها ويؤدّي إلى تقويض حكمها هو العمل السياسي المنظّم الذي يوحّد الفئات المحرومة اقتصادياً وسياسيّاً على اختلاف منابتها وانتماءاتها، فيدفعها للسعي نحو أهداف مشتركة، فإنّ المستبدّين سيمنعون ذلك بأيّ ثمن، وهم وجدوا في الطائفيّة إحدى أفضل الوسائل التي تحول دون ذلك؛ لأنها تلغي الكائن السياسي في كل مواطن فرد وتحوّل المواطنين إلى جماعات متنافرة متحاجزة تتصارع على أساس اختلاف انتماءاتها الدينيّة والمذهبيّة، ومن ثمّ الاقتتال فيما بينها بدلاً من العمل معاً في وجه الاستبداد الذي يغذّي صراعاتها ويستثمر فيها ويفيد منها لدعم سلطته.
والورقة الطائفية في يد الأنظمة لا تقتصر على تفتيت المجتمع وتذريره ثم تحريض فئاته المختلفة بعضها على البعض الآخر، وإنما أيضاً عبر ما يُسمّى “حماية الأقليات”، وذلك من خلال إثارة الخوف من “الأكثرية” لدى هذه الفئات وادعاء الحرص عليها وحمايتها وضمان حقوقها، وبهذا يتعزّز لا محالة الفرز الطائفي وتتعمّق الشروخ في المجتمع المعني، بما يضمن استمرار ضعفه وسهولة السيطرة عليه.
أمّا الحزب الديني أو الطائفي فهو يعتمد الشعارات والأيديولوجيا الدينية في سعيه المحموم إلى السلطة، ويقوم مشروعه أساساً على استنفار العصبيات الدينية لدى جماعة معينة، وذلك في إطار عمله على الخروج بها من حالتها العادية أو “الطبيعية”، إن جاز التعبير؛ أي بما هي فئة اجتماعية من ضمن التكوين الاجتماعي لها بعض التمايزات التفسيرية أو السلوكية في إطار الديانات السائدة في المجتمع، وذلك من أجل تحويلها قسراً إلى فاعل سياسي جمعي متخيّل، يكون بديلاً عن الأفراد المستقلين المنتمين لها.
والغاية من هذه العملية اختزال الجماعة بالحزب الذي يدّعي بأنه هو من يمثّلها ويعمل على احتكار هذا التمثيل. وإذ تواصل هذه الأحزاب استنفار كل ما من شأنه تحويل الانتماء الديني الشخصي لدى الأفراد إلى عصبية وولاء أعمى للطائفة عبر الحزب ومن خلاله، تصبح المصلحة العليا هي “مصلحة الطائفة” وفق ما يقررها الحزب لا مصلحة الوطن، وهوية الأفراد هي انتماؤهم الديني الطائفي لا الوطني، حتى أنّ الطائفة تحل محلّ الدين الأصلي الذي انبثقت عنه.
إن الحديث عن آفة الطائفية وما ينجم عنها من مآسٍ وكوارث بات من الثوابت المرافقة لأي نقاش يتناول أوضاع البلدان والمجتمعات العربية التي تعاني ضروباً شتى من الصراعات والحروب والفوضى وعدم الاستقرار، على تباين ظروفها واختلاف أنظمة الحكم فيها، وهذا ما يجعل من تجاوز الطائفية مقدّمة لا بدّ منها للخروج من هذه الأوضاع المتردّية، وذلك لن يكون بغير إزالة أسبابها.
مؤكّد أنّ الحديث المتهافت عن “مؤامرة خارجية” تصنع الطائفية هو أقلّ من أن يفسّر الظاهرة أو يساعد في تجاوزها. كما لا ينفع الاكتفاء بتعليق كل شيء على شمّاعة الأنظمة وحدها ولا أن تلقى المسؤولية على عاتق الأحزاب الدينية فقط، على أهمّية وخطورة دور هذين الفريقين. فإنّ ما ينبغي على المجتمعات التي ابتليت بالطائفية عمله، إن أرادت الخلاص من هذا البلاء، هو أن تحذر كلّ الحذر من أي فريق سياسي يوظّف الدين في خطابه خدمة لمصالحه وأهدافه السياسية، سواء كان في الحكم أو في المعارضة، ورفض الانجرار وراء ادعاءاته والتضليل الذي يمارسه تحت غطاء الدين. لأنه لا فكاك من الطائفية إلا بالقضاء على عنصرها الأهم: تسييس الدين وزجّه في الحقل السياسي. صحيح أنّه ليس العامل الأوحد الذي يولّد هذه الظاهرة المقيتة، لكنّه اللازم الذي لا يُتصوّر أن تنشأ من دونه مهما اجتمعت بقيّة الظروف والعوامل.
المصدر : حفريات