عمران سلمان
الوضع الحالي في تونس يمثل إشكالية نظرية وعملية ليست هينة لكثير من المراقبين غير المؤدلجين. فمن جهة هناك وضع سياسي جديد منذ قرار الرئيس قيس سعيّد حل الحكومة وتعليق عمل البرلمان (25 يوليو 2021) ثم حله (30 مارس 2022) وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية وحل المجلس الأعلى للقضاء. وهو وضع يصفه البعض بالانقلاب فيما يصفه آخرون بالتراجع المقلق عن الديمقراطية.
لكن في الوقت نفسه تحظى هذه الإجراءات بتأييد شعبي كبير، وهي تأتي على وقع فشل سياسي واقتصادي عاشته تونس طوال العشر سنوات الماضية ووسط انهيار في مؤسسات الدولة نفسها.
ويبدو أن المعارضين لتلك الإجراءات هم إما من الإخوان المسلمين أو الجماعات الصغيرة والشخصيات المتحالفة معهم. وقد فشل هؤلاء حتى الآن في تشكيل تحد ذو معنى للرئيس التونسي ولما يقوم به. كما فشلوا أيضا في اقتراح مسارات أخرى لإخراج تونس من أزمتها.
على الجانب الآخر لم تلجأ السلطة وأجهزة الأمن إلى أي من الأساليب المعهودة في مثل هذه الأوضاع. فلم تجر اعتقالات في صفوف المعارضين ولم يتم قمعهم ولم تستخدم القوة ضد التظاهرات التي جرت حتى الآن وليس هناك ما يشير إلى أن حرية التعبير والرأي في خطر.
بعبارة أخرى، نحن إزاء حالة فريدة من نوعها. فمن جهة يصعب القول بأن ما حدث كان انقلابا لأن الانقلابات لها سمات وطبيعة معروفة وهي غير متوافرة في الحالة التونسية، كما أن الرئيس نفسه منتخب من الشعب.
لكن من الجهة الأخرى ثمة مخاوف من أن يؤدي حل البرلمان وحصر السلطات في يد الرئيس والعمل على تسيير شؤون الدولة عبر الأوامر التنفيذية وحدها، إلى انزلاق البلاد نحو النظام الاستبدادي وهي مخاوف مشروعة.
لذلك فإن الحكم على النتيجة التي سينتهي إليها كل ذلك ربما يحتاج إلى بعض الوقت لرؤية ما إذا كانت “الجمهورية الجديدة” التي يبشر بها الرئيس قيس سعيّد قادرة على إصلاح الاقتصاد وإنشاء دولة مدنية حديثة تضمن الحريات وتؤسس لنظام ديمقراطي أم لا.
ولعل ما قاله منسق الهيئة الاستشارية لإعداد الدستور الجديد الصادق بلعيد ربما يعطي لمحة عن هذا التوجه حيث صرح لوكالة فرانس برس (6 يونيو 2022) إنه سوف يعرض على الرئيس قيس سعيّد مسودة للدستور لن تتضمن ذكرا للإسلام كدين للدولة، بهدف التصدي للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية على غرار “حركة النهضة”.
واضاف أن “ثمانين في المائة من التونسيين ضد التطرف وضد توظيف الدين من أجل أهداف سياسية، وهذا ما سنفعله تحديدا وسنقوم بكل بساطة بتعديل الصيغة الحالية للفصل الأول” من الدستور.
وعلينا أن نتوقع بالطبع وجود معارضة لمثل هذا التوجه.
لكن ما يلفت النظر في هذا الشأن هو الحرب الإعلامية والسياسية الشرسة التي تشنها منذ بعض الوقت جماعة الإخوان المسلمين ضد الرئيس التونسي قيس سعيّد. وهذه الحرب تشارك فيها فروع الجماعة المختلفة، إضافة إلى قطر ووسائل الإعلام التابعة لها وتلك الممولة من قبلها والتي لا يمر يوم إلا وتنشر فيها أخبارا سلبية عن تونس.
وقد سعت هذه الجهات إلى إعطاء الانطباع بأن الخلاف يدور حول الديمقراطية والإجراءات التي اتخذها الرئيس التونسي، لكن واقع الأمر هو أنه لا علاقة له بالديمقراطية من قريب أو بعيد، وإنما هي حرب على النفوذ والسيطرة.
إذ ترى جماعة الإخوان ممثلة في حركة النهضة أن الرئيس التونسي قد قوض نفوذها في البلاد وحرمها من السلطة التي كانت تتمتع بها وأنه بصدد إرساء نموذج مغاير لما رسمه وخطط له الإسلاميون. والأخطر بالنسبة لها أن هذا النموذج ربما يحظى بتأييد شعبي وربما يتم تعميمه في المنطقة.
أقول إن هذه الحرب لا علاقة لها بالديمقراطية من قريب أو بعيد، فلم يعرف عن قطر مثلا أنها بلد ديمقراطي أو تدافع عن القيم الديمقراطية، فليس هناك انتخابات حقيقية أو تداول سلمي للسلطة، (الطريقة الوحيدة لتداول السلطة في قطر هي إما الوراثة أو الانقلاب العائلي) أو إعلام حر أو تعددية من أي نوع. وفي المرات القليلة التي اعترض فيها بعض القطريين على أمر ما (خاص بالانتخابات الأخيرة) تم الحكم على ثلاثة منهم بالسجن المؤبد ورابع بالسجن 15 عاما.
كذلك فإنه لم يعرف عن جماعة الإخوان المسلمين أنها داعية للديمقراطية، هي تقبل بالانتخابات وتدعو إلى الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، بعد أن اكتشفت أنها أداة يمكن أن توصلها إلى السلطة، لكنها لا تقبل بالنظام الديمقراطي.
والانتخابات كما هو معروف ليست هي الديمقراطية، وإنما مجرد عنصر من عناصرها. وبحسب التعريف المعتمد من قبل الأمم المتحدة فإن النظام الديمقراطي لا بد أن يشتمل على العناصر التالية:
احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
حرية تكوين الجمعيات.
حرية التعبير والرأي.
الوصول إلى السلطة وممارستها وفق سيادة القانون.
إجراء انتخابات دورية حرة ونزيهة بالاقتراع العام والاقتراع السري كتعبير عن إرادة الشعب.
نظام تعددي للأحزاب والمنظمات السياسية.
الفصل بين السلطات.
استقلالية القضاء.
الشفافية والمساءلة في الإدارة العامة.
إعلام حر ومستقل وتعددي.
فهل تقبل جماعة الإخوان المسلمين مثل هذا النظام؟
بالطبع كلا. لأن النظام الديمقراطي سوف يتضمن تلقائيا شكلا من أشكال العلمانية وهو الأمر الذي ترفضه بشدة، والنظام الديمقراطي ببساطة يقوض أهدافها في السيطرة على المجتمع والدولة.
لذلك باعتقادي أن الصراع الدائر حاليا في تونس، ليس صراعا على الديمقراطية، فجميع الأطراف غير معنية بإقامة نظام ديمقراطي، وإنما هو صراع على المصالح والنفوذ. وما يهم في هذه المرحلة هو إعادة الثقة في مؤسسات الدولة والنهوض بالاقتصاد وتوفير قدر من الاستقرار والأمن وانتظام الحياة الطبيعية. وإذا كان ثمة ديمقراطية فهي ستأتي بعد ذلك وليس قبله.
نقلاً عن “الحرة”