رستم محمود
راهنا، يشكل مشهد المواجهة في شمال شرق سوريا تعبيرا مكثفا عما يجري في عموم المنطقة، بما يمثله من مسرح واقعي بالغ التراجيديا: إذا فيما تصر تركيا على شن حرب ماحقة على تلك المنطقة، بزخم بالغ الحماسة، مستخدمة مختلف أنواع الشحن الإيديولوجي والنظريات القومية وخطابات البطولة والأمجاد العسكرية، الداعية لرفع الشكيمة والجسارة لاكتساح الآخرين، بمشاركة حميمة من مختلف نُخب ومؤسسات الدولة والمجتمع والقوى السياسية، وحتى الثقافية، وبمشاركة المئات من الفصائل السورية المسلحة المؤدلجة وعصابات النهب العام الرديفة لها، مقابل كل ذلك، فإن “الحياة” بمعناها الأكثر موضوعية وحقيقية، تبدو منعدمة في تلك المنطقة المنوي مهاجمتها، منعدمة تماما.
انتفاء الحياة وإمكانية العيش ليس شيئا “أصيلا” في هذه المنطقة، بل هي شرط وعامل وظرف صار يتصاعد بشكل متواتر منذ سنوات، وبكثافة استثنائية خلال السنوات العشرة الماضية. بفعل وتأثير الأحداث السياسية والعسكرية في هذه المنطقة، تلك الأحداث السياسية والعسكرية المتأتية من نوعية من العقل الأيديولوجي/القومي/الطائفي والعسكري/العنيف، التي أثرت وغيّرت كل شيء، بما في ذلك البيئة/المناخ/الحياة نفسها.
فهذه المنطقة التي كانت توصف يوما بأنها “كاليفورنيا الشرق”، لما كانت تفيض به من خيرات زراعية ومنتجات غذائية وثروة حيوانية، إلى جانب وفرة المياه والمروج الخصبة، صارت جردا صحراويا على مد النظر: أمطار شحيحة طوال عقد كامل من الزمن، لا تتجاوز نصف معدلها السنوي، المئات من الأنهار والسواقي توقفت تماما عن التدفق، مستويات البحيرات الطبيعية والصناعية قريبا تماما لحد الجفاف، زيادة هائلة في نسبة ملوحة التربة، ارتفاع استثنائي في درجات الحرارة، تضاعف وتيرة التصحر والجفاف، تراجع مريع في أعداد ومساحة المناطق المشجرة، ومقصلة عامة لأعداد وأنواع الحيوانات البرية والداجنة التي كانت في هذه المنطقة.
أمام هذه المشهد المأساوي، لا يبدو أن شيئا في عوالم العنف والإيديولوجية وقيم الكراهية والصراع الطائفي قد تراجع، كما هو مفترض. لأن مجموع هذه التناقضات، من المفترض أن تبدو صغيرة وهامشية، مقارنة بالصراع والتناقض الأساسي، بين البشر والطبيعة، أو بينهم وبين ظرف انتفاء الحياة، بقول أكثر تحديدا. فتلك الهوامش، ما تزال أكثر جبروتا وحضورا وفاعلية، وبما لا يُقاس.
ولا يتعلق الأمر بمنطقة شمال شرق سوريا فحسب، بل بعموم بلدان المنطقة، التي تشهد أحداثا وتناقضات شبيهة بتلك. حيث أن المسألة البيئية في كل منها، تبدو مثل غيرها من قضايا العالم الحديث، كالحريات والمساواة الجندرية وحقوق الإنسان والمساواة في التمثيل السياسي، وبالرغم من كثافة تأثيرها على تفاصيل حياة مجتمعاتنا، إلا أنها في طور التهميش التمام، غير مفكر بها.
يحدث ذلك، بالرغم من أن تقارير المؤسسات الدولية الأشد رصانة، تقول إن منطقة الشرق الأوسط ستكون الأكثر عرضة وتأثرا بالمسألة المناخية خلال السنوات الثلاثين القادمة، بالذات منها العراق وسوريا وإيران وتركيا، حتى أنها ستكون القضية الأعظم خطرا على الأمن القومي واستقرار المجتمعات وشكل الحياة في هذه الدول، وأن هذا التأثير الاستثنائي للمناخ على منطقتنا يأتي بالدرجة الأولى كنتيجة مباشرة لتراكم نوع من السلوكيات السياسية والاستراتيجيات الدولتية التي اتخذتها وتبنتها الأنظمة السياسية الحاكمة لهذه الدول، حيث كانت تتخذ الهيمنة الإيديولوجية الموجهة والاستراتيجيات الحربية والاقتصاديات المركزية الفاسدة، وفقط لصالح ديمومة الأنظمة الإيديولوجية وهيمنة السلالات الحاكمة، على حِساب أي وعي معياري يتبنى مسائل مثل الاستقرار السكاني والثبات المناخي والتوازن البيئي.
تستمر البيئة في تدمير نفسها، وإيانا، لأن سياقات الحياة ونوعية الوعي السياسي والإيديولوجي وشكل العلاقة بين البشر في منطقتنا مستمرة تفصيلا عما كانت على الدوام: أنظمة سياسية مبنية على قيم وخيارات العنف الإيديولوجي والخطابي، تبني حساسيتها وقياساتها على المنظومة الأمنية الحريصة على استمرار الحاكمين والنخب الامتيازية المحيطة بهم في أعلى سلم الحكم، مع مراكمة للعنف المادي والرمزي من كل حدب، ودون أية مبالاة بقضايا ذات هويات ومضامين أكثر رحابة على الحيز العام وشكل الحياة، مثل الثقافة والحرية وقيم حقوق الإنسان والمسألة البيئية.
لا يتعلق الأمر بوجود أنظمة على هذه الشاكلة مقابل مجتمعات معاكسة ومخالفة لها، بل إن التطابق بين الطرفين هو الوجه الأكثر وضوحا للمسألة.
فإن كانت الأنظمة ومؤسسات الدولة التي تحت سيطرتها مشغولة بمراكمة أدوات العنف والأيديولوجيا، فإن الطيف الأوسع من أبناء مجتمعاتنا ترى في المسألة البيئية مجرد ترف ثقافي، يثير بالنسبة للكثير منهم حس السُخرية والتهكم، أو قضية من خارج بنيان أحوالنا العامة، بالنسبة للنسبة الباقية. مثلها مثل قضايا الحقوق الجسدية والمساواة الجندرية واحترام أنظمة السيّر وحقوق الطفل…الخ.
فالأكثر فاعلية وديناميكية في الصرح الهوياتي لأبناء مجتمعاتنا هو الذاكرة الجمعية القائمة على الهويات القومية والطائفية والدينية والمناطقية، وهي قضايا وحساسيات ما تزال تثير مشاعرها وتحفز سلوكياتها أكثر من أي شيء آخر.
النُخب السياسية والثقافية والمجتمعية والاقتصادية بدورها ليست أفضل حالا من الجماعتين السابقتين، الأنظمة السياسية والمجتمعات.
فهذه النُخب شديدة الحساسية لما قد يُغير مواقعها الامتيازية والفوقية ضمن مجتمعاتها، حتى لو كانت خطوات خجولة وبسيطة وشديدة الضرورة تتعلق بالمسألة البيئية ولصالحها، مثل اتخاذ مجموعة من الإجراءات الاقتصادية والسياسية، وحتى التعليمية والتربوية، التي قد لا تكون لصالح وحسب أمزجة هذه النُخب، التي ستقف على الضد منها دون شك.
يوميا، ثمة بحر من نشرات الأخبار والتقارير والدعايات والمنشورات السياسية، إلى جانب كتابات وسائل التواصل الاجتماعية، تلك المنتجات التي تبدو متخمة بكل شيء، خلا أي تطرق لما قد يأتي على جذر الحياة نفسها، المسألة البيئية. فبالكاد يُعثر على ناشط بيئي هنا وفاعلية بيئية هناك، دون أي تنظيم ذا مضمون أو تأييد إعلامي ومؤسساتي أو دعم مالي أو رؤية ذات قيمة. فالمسألة البيئية في الحس العام ما تزال مزيجا مركبا من سوء المعرفة مع الكثير من التجاهل والشعور باللاجدوى.
نقلاً عن “الحرة”