عمرو فاروق
تفسير ظاهرة التطرف والإرهاب وتحليلها، لن يتحقق من دون الوقوف طويلاً أمام الجوانب السلوكية والنفسية والفكرية المكونة لشخصية “الإرهابي”، ودراستها بتعمق للوصول إلى الحقائق الكامنة حول دوافع الارتباط بالمكون الفكري والتنظمي أو الانفكاك عنه أو التمرد عليه.
يعتبر “الإرهابي”، أو “المبحوث”، النقطة الأهم في “العملية البحثية” لتشريح ظاهرة تمدد “الإرهاب” واستمراره، واستبيان حقيقة العوامل المساهمة والفاعلة في بناء منظومة “التطرف الأصولي”، وقدرته في إخضاع أتباعه ومريديه لسياسته واتساقهم مع توجهاته الفكرية والحركية، وإدارته ماكينة التجنيد والاستقطاب في الأوساط المجتمعية.
انتقال “الإرهابي” (المبحوث)، من حيز التجربة الحركية، إلى نطاق “الوظيفة التشريحية”
(الباحث) ، أمر في غاية الخطورة، في ظل انتساب العديد من القيادات السابقة في الجماعات الأصولية إلى عملية “البحث العلمي”، حول تفسير ظاهرة “التطرف”، انطلاقاً من واقع التجربة الخاصة التي مروا بها بين جدران المكون التنظيمي.
ارتباط الأشخاص بـ”الجماعات المتطرفة”، لا يمنحهم فرضية القدرة على توصيف الظاهرة “الإرهابية”، وتشريح جوانبها، إذ لا يمكن للمريض النفسي الذي ظل لسنوات طويلة في معارك التخبط والتصارع مع الاضطرابات النفسية والفكرية، أن يتحول إلى طبيب نفسي معالج للظواهر المراضية المسيطرة على انفعالاته.
منذ عام 2005، والنخبة المصرية والعربية تشهد نمواً مبالغاً فيه حول ظاهرة تحول “المتطرفين” (المبحوثين)، إلى باحثين معنيين ومتخصصين في رصد إشكاليات تنامي تيارات الإسلام السياسي والجماعات التكفيرية المسلحة في العمق المجتمعي، ووصفهم تجاوزاً بألقاب خبراء الإرهاب والتطرف عبر وسائل الاتصال الحديثة المرئية والمسوعة.
الخلط المتعمد بين “الباحث”، المتصل بالإطار المنهجي والعلمي في دراسة ظاهرة “التطرف”، وبين صاحب التجربة الحركية والفكرية، المراد تحليلها وتفسيرها على المستوى النفسي والفكري والعقائدي والاجتماعي (المبحوث)، يعد جريمة يحاسب عليها الإعلام المصري (تحديداً)، إخلالاً بضوابط العملية البحثية، في ظل عدم تجردهم التام تجاه قياس “ظاهرة الإرهاب”، والوقوق على أسبابها ونتائجها.
غالبية العناصر المنشقة عن الجماعات المتطرفة، واقعة تحت تأثير الاضطرابات النفسية المعقدة والمركبة، في ظل خضوعها لتنظيمات سرية مغلقة لفترة طويلة، كما أن بعضهم ظل حبيس جدران السجون انفرادياً، لأكثر من 15 عاماً، بعد تورطهم في أعمال العنف المسلح التي شهدتها مرحلة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، ما يدفع بأن نتائج مخرجاتهم البحثية موجهة، أو تحكمها دوافع خاصة أو نزعة انتقامية، أو بمعنى أدق ليست قائمة على أرضية بحثية متزنة أو متجردة.
اختصرت البرامج المعنية بتأهيل القيادات التكفيرية والأصولية السابقة، دورها في “الجدلية الفكرية”، واسقطت من حساباتها “المعالجة النفسية”، التي تمثل العمود الأساسي في عملية التحول الطارئ على شخصية “الإرهابي”، ومراحل التنميط السلوكي المتغير، لا سيما تجاه المجتمع من التكفير والاستعلاء واستحلال الدماء.
إلقاء الضوء على ظاهرة تحول “الإرهابي” أو “المنشق” إلى “باحث”، يضع أمامنا مجموعة من الملاحظات الهامة، إذ إن بضعهم استغل تلك الصفة التي خُلعت عليهم من وسائل الإعلام في “التربح”، و”المتاجرة” بتجربتهم الخاصة التي فتحت أمامهم الأبواب في جني الأموال وتسكينها في الحسابات البنكية، فضلاً عن محاولات غسل السمعة من الجرائم الدموية التي اشتراكوا فيها، والهروب من وصمة التطرف والإرهاب.
ثمة ملاحظة أخرى لا يمكن تجاهلها تبلورت في فكرة الانتقام أو النيل من قيادات المكون التنظيمي المنتمين إليه سابقاً، بناء على مواقف شخصية حدثت بينهم في إطار العلاقة الفوقية المغلفة بضوابط الانصياع والخضوع، فالكتيبات التي وثقت جزءاً من تجاربهم، فضحت الكثير من خلافاتهم وصراعاتهم الشخصية، والتي وظفت ضمن الإطار البحثي، اتساقاً مع الحالة الثأرية والنفسية.
التعامل مع ملف “الإرهاب والتطرف” تحول فعلياً إلى باب للتكسب والتربح على أيدي “المنشقين” (المبحوثين)، الذين جعلوه مادة خصبة قابلة للمتاجرة، من خلال بناء المنصات والمراكز الوهمية، والمطبوعات الورقية التي تناولت الظاهرة بسطحية بالغة، وبشخصنة غير معهودة في عمليات الطرح والمعالجة، في ظل تجاهل تأثيرات القضية باعتبارها أحد صممات الأمن القومي والسلم الاجتماعي.
ربما أميل – على المستوى الشخصي – الى الطرح الذي يعتبر أن ابناء التنظيمات السرية ليسوا ضحايا لتلك الجماعات الأصولية وأهدافها التخريبية وانحرافاتها العقائدية، في ظل الدور الفاعل والمؤثر لـ “العلل النفسية” في عملية الانتماء التنظيمي، والارتباط الفكري، كونها المظلة التي احتوت اعتقاداتهم الباطنية المملوءة بمشاعر الاصطفاء والتميز والتعالي وسطوة السيطرة، والعداء الفطري تجاه المجتمع.
إقرار “الإرهابي” بالتراجع والتوبة، لا يمنحه صك توجيه المجتمع، أو تقدم صفوف المحافل البحثية لتحليل ظواهر التطرف ومشتقاته، إذ إن الهروب من جحيم السجون، كفيل بأن يجعله يُظهر عكس ما يُبطن من قناعات، لا سيما أن “المراجعات الفكرية”، التي تمت في بداية الألفية الثالثة، وصفها أبناء الجماعة الإسلامية وتنظيمات الجهاد، عقب سقوط نظام الرئيس مبارك، بأنها خرجت في ظروف قاسية بضغوط من جهاز أمن الدولة (الأمن الوطني حالياً)، وأنها لا تعبّر عن توجهاتهم الحقيقية.
المنشقون عن الجماعات الأصولية، والمنتقدون لدواخلها، (جماعة الإخوان نموذجاً)، لا يمكن الوثوق بطرحهم أو رؤيتهم حول تفسير ظاهرة “التطرف والإرهاب”، إذ إن ثمة فارقاً كبيراً بين الانشقاق التنظيمي، والتمرد والانفصال الفكري، فالإنشقاق في ذاته مرتكز الى الخلافات الداخلية، كالصراع على المناصب والأموال، مع بقاء الفرد (العضو السابق)، متأثراً ومتشبثاً بالأدبيات الفكرية التي تربى عليها داخل سياق المكون السري.
ربما لم يتمكن من المفاصلة الفكرية سوى عدد قليل جداً من الباحثين المصريين الذين جاءوا من خلفية أصولية (جماعة الإخوان)، أبرزهم الراحل حسام تمام (رغم تحفظ البعض على منهجه)، وكذلك ثروت الخرباوي، وسامح عيد، وكامل رحومة، وطارق أبو السعد، وأحمد بان، وأحمد ربيع غزالي، في حين سقط آخرون في غياهب التأرجح الفكري والتنظيمي.
يتبنى الباحثون المنشقون عن الجماعات الأصولية، تفسيراً أحادياً في بحوثهم، في إطار خلط مشين بين المادة البحثية وبين مفردات التجرية الذاتية، في ظل عدم القدرة على التحقق من صدق سردياتهم ومعلوماتهم التي أسندوا إليها تحليلاتهم.
ظاهرة الباحثين العرب ذوي الخلفيات الأصولية، والمعنيين بتحليل قضية “التطرف والإرهاب”، أثرت بلا شك في النتائج البحثية واهتزازها في ظل “تسليعها” وخضوعها للتوجهات الشخصية، خلافاً للخبراء الغربيين الذين أجادوا تشريح الظاهرة في نطاق المجتمعات الأوروبية، أمثال إيرينا تسوكرمان، ولورينزو فيدينو، وايميلي اوفتيدال، وهارون زيلين، ولورانس بيندنر، وهوغو ميشيرون، وغونتر ماير، ورولان جاكار، ويان هاميل، وريشار لابيفير، وجورج مالبرونو، وغيرهم.
ربما الجانب الأكاديمي ما زال في حاجة ملحة إلى مؤسسات علمية تمنح طلابها دبلومات مختصصة في مكافحة التطرف والإرهاب، تتناول الاختلافات الفكرية بين الجماعات الأصولية، وتبرز سماتها الحركية وإرهاصاتها السياسية، وتأثيراتها الأمنية، فضلاً عن تفحص امتدادها التاريخي والجغرافي، وقدرتها على تطوير وسائلها التنظيمية في صناعة الدوائر التعاطفية بين الفئات المجتمعية.
بقاء ظاهرة “الإرهاب” على قمة المشهد البحثي والإعلامي، يخدم مصالح الباحثين المنشقين عن الجماعات الأصولية، إذ إن استمرارية عمل ماكينة الاستقطاب الفكري والتجنيد التنظيمي بين الأوساط الشبابية الجديدة، يمنحهم المزيد من الرضا النفسي، من أنهم ليسوا وحدهم الموصومين بـ”التطرف والإرهاب”، فضلاً عن بقاء هيمنتهم وسيطرتهم على “مراكز الفكر”، المعنية برصد الظاهرة، واستمرار تمويلها من قبل صناع القرار السياسي، ما يمثل ضماناً لحصولهم على المكاسب المالية.
لا نقول إن توبة “الإرهابي” غير مقبولة، ولا نقول إن مساهمته في التعليق على جوانب الظاهرة الإرهابية غير مفيدة، لكنها مقيدة في إطار التجرية الشخصية، كنموذج يقاس عليه ويستدل من خلاله، فلا يمكن أن يتحول المريض إلى طبيب معالج، فكيف لمعتل نفسي أن يضع حلولاً علاجية لمعتل آخر مهما كانت خبراته التراكمية؟ ومن ثم لا يجب أن يختل ميزان البحث العلمي في قياس الظواهر، ولا يجب الخلط بين المفاهيم والمسميات.
نقلاً عن “النهار” العربي