كريم شفيق
كاتب مصري
مع احتدام الأزمة العالمية والاستقطاب الدولي الراهن، على خلفية الحروب الروسية الأوكرانية، جاءت تصريحات وزير الخارجية الأمريكي السابق، هنري كيسنجر، لتضع مقاربة سياسية، نظرية وعملية، لهذا الوضع المأزوم، لا سيما أنّه سبق وتنبأ بالمآلات التي تجري، قبل عدة أعوام، في مقال له في صحيفة “واشنطن بوست”.
أحداث كبيرة قادمة
وقال كيسنجر، في مقال له، عام 2014، حول الأزمة الأوكرانية؛ إنّ “المناقشة العامة حول أوكرانيا تدور حول المواجهة، لكن هل نعرف إلى أين نحن ذاهبون؟ في حياتي، رأيت أربع حروب بدأت بحماسة كبيرة ودعم شعبي، لم نكن نعرف كيف ننهيها، وانسحبنا منها من جانب واحد. اختبار السياسة هو كيف تنتهي الحروب وليس كيف تبدأ”.
وتابع: “في كثير من الأحيان تُطرح القضية الأوكرانية على أنّها مواجهة: ما إذا كانت أوكرانيا تنضمّ إلى الشرق أو الغرب. لكن إذا كان لأوكرانيا البقاء والازدهار، يجب ألا تكون نقطة استيطانية لأيّ من الجانبين ضدّ الآخر، ويجب أن تعمل كجسر بينهما”. وأردف قائلاً: “يجب أن تقبل روسيا أنّ محاولة إجبار أوكرانيا على الدور في فلكها، من شأنه أن يحكم على موسكو بتكرار تاريخها من دورات التوتر المتبادلة مع أوروبا والولايات المتحدة”.
يبدو أنّ موقف كيسنجر، تحديداً فيما يخصّ الأزمة الأوكرانية وتأثيراتها على القوى الدولية، ما يزال دون تغييرات جذرية، لكنّه طالب الغرب بأن يضع المصالح الروسية بعين الاعتبار عند مناقشة أيّة تسوية سياسية للوضع في أوكرانيا، وذلك بهدف تفادي النفوذ الصيني على روسيا، حسبما قال في مقابلة مع صحيفة “صنداي تايمز” البريطانية. وتابع: “السؤال، الآن، هو كيفية إنهاء هذه الحرب. بعد أن تنتهي، يجب إيجاد مكان لأوكرانيا، وكذلك لروسيا، إذا كنا لا نريد أن تصبح روسيا موقعاً أمامياً للصين في أوروبا”.
وعرج وزير الخارجية الأمريكي السابق بالحديث على الناتو قائلاً إنّه “من المهم الحفاظ على الحلف الذي يعكس التعاون بين أوروبا وأمريكا”، لكن كان من الضروري “الاعتراف بحقيقة أنّ أحداثاً كبيرة قادمة” في الشرق الأوسط وآسيا.
انقسام الولايات المتحدة
وتابع: “لقد اجتمع الدول الأعضاء في الناتو بشأن قضية أوكرانيا؛ لأنّها ذكّرتهم بالتهديدات القديمة، لقد قاموا بعمل جيد للغاية وأنا أؤيد ما فعلوه”.
ولفت كيسنجر إلى أنّ “الولايات المتحدة باتت منقسمة، اليوم، أكثر مما كانت عليه خلال حرب فيتنام”، موضحاً أنّه “في أوائل السبعينيات، كان التعاون بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة ما يزال ممكناً، وكانت المصلحة الوطنية مفهوماً له معنى، ولم تكن في حدّ ذاتها موضوعاً للنقاش”.
وشدّد كيسنجر على أنّ “كلّ إدارة في الولايات المتحدة تواجه، اليوم، عداءً مستمراً من المعارضة المبنية على أسس مختلفة”؛ حيث إنّ “التوقع بأن تصبح الصين غربية، هو إستراتيجية لم تعد معقولة، ولا يعتقد أنّ الهيمنة على العالم هي مفهوم صيني، لكنّه يعتقد أنّ الصين يمكن أن تصبح قوية للغاية”.
تحييد مخاطر روسيا
ويرى الباحث المتخصص في العلاقات الدولية، الدكتور مصطفى صلاح، أنّ هذا الطرح الذي يقدّمه كيسنجر إنّما يعكس تفكير جناح وشريحة كبيرة من الآراء داخل الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تتعامل مع الأحداث، في أوكرانيا، بأنّها أصبحت أمراً واقعاً، وأنّ روسيا تمكنت، بصورة أو أخرى، من تنفيذ أهدافها، بالتالي، يجب تحييد مخاطرها عن منظومة العلاقات الغربية وكذا عزلها عن الصين، وهو ما يعني إعادة النظر في السياسات الغربية حيال التعامل مع التهديدات الروسية.
وتعدّ هذه التصريحات التي أدلى بها كيسنجر بمثابة “إعادة الهيكلة لطبيعة العلاقات مع روسيا، ومنح فرصة لدمج موسكو داخل المنظومة الغربية”، وفق صلاح، وذلك حتى لا تتحول روسيا، بصورة كاملة، إلى انتهاج “سياسات عدائية” تهدّد المصالح الأمنية للغرب وواشنطن.
ويردف: “قد يكون هذا الطرح بمثابة قراءة واقعية لتحولات الحرب الدائرة هناك، وما يمكن أن تفرزه من تحديات على مختلف المستويات، السياسية والأمنية والإستراتيجية. وقد تتسبّب، هذه الحرب، في تراجع القدرات الغربية بشأن ردع موسكو، إضافة إلى أنّ هذا الصراع المحتدم يعدّ مرحلة من مراحل الإنذار المبكر لما يمكن أن تكون عليه روسيا في المستقبل”.
والثابت فيما صرّح به كيسنجر، هو أنّه “طرح منسجم مع فكر هذا المسؤول الذي عاصر تحولات العالم الحديث، وكان شاهداً عليها بحكم مناصبه وما نفّذ من سياسات ساهم في رسمها، وقد نتفق معها أو نختلف”، حسبما توضح الكاتبة هالة محمد جابر الأنصاري، في مقالها المنشور بصحيفة “البيان” الإماراتية: “فهو صاحب النظرية الأشهر في طبيعة العلاقات الدولية، التي على أساسها، اعترفت أمريكا بالصين ووافقت على إدخالها الأمم المتحدة، ومنها نشأ الوفاق والتعاون بين القوتين العظميين في ذلك الحين، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وما نتج عن ذلك من تسويات وبعض الانفراجات لأزمات مستعصية، كحرب فيتنام والخلاف بين الكوريَّتين، والعداء بين الألمانيتين والأمن الأوروبي، هذا غير استحداثه لمنطق “التعددية السياسية الخماسية”، التي تشمل القوتين العظميين، إلى جانب الصين واليابان وأوروبا المتحدة، فاتحاً الباب أمام أيّة كتلة عالمية جديدة بشكل لا يربك ميزان المصالح والتحالفات المشتركة، لكن بشرط أن تتقن تفوقها الاقتصادي والتكنولوجي وتبتعد عن الترهيب السياسي والعسكري الذي كان العنوان الأبرز لفترة الحرب الباردة”.
وإلى ذلك، يشير الباحث في العلوم السياسية، الدكتور محمد ربيع الديهي، إلى أنّ حديث كيسنجر حول روسيا والإشارة لضرورة إيجاد موطئ قدم لها داخل الكتلة الاوروبية، له دلالات خاصة ومهمة، أولها؛ أنّ الدول الغربية والولايات المتحدة يدركون تماماً أنّ العالم ما بعد الأزمة الأوكرانية سوف يشهد تغييرات جمّة فيما يخصّ توجهات القوى الكبرى والقوى الإقليمية، لافتاً في حديثه لـ “حفريات” إلى أنّ تصريحات وزير الخارجية الأمريكي السابق تؤكد أنّ احتواء موسكو بات ضرورة ملحّة لأوروبا، ويؤكد، كذلك، على أنّ الصين ما تزال هي مصدر التهديد الأول (والأولوية القصوى) للغرب وليست روسيا.
ويردف: “تصريحات وزير الخارجية الأمريكي السابق، تؤكد أنّ المجتمع في الشرق الأوسط، سوف يشهد كذلك درجة من درجات الاستقطاب والتجاذبات بين القوى الدولية، وهو ما يتطلب إعادة صياغة إستراتيجية جديدة للتعامل مع الغرب”.
المصدر: حفريات