القاهرة – أحمد حافظ
كانت الفتوى ولا تزال أحد أقوى أسلحة جماعة الإخوان والقوى السلفية لمناكفة النظام المصري، لذلك قررت وزارة الأوقاف المصرية تشكيل مجالس للفتوى في المساجد في مسعى للمزيد من إحكام السيطرة على الخطاب الديني وانتزاع ورقة مهمة من خصومها الإسلاميين.
وأدركت وزارة الأوقاف المصرية أخيرا أن ترك ساحة الإفتاء لشيوخ التيار السلفي لن ينتج عنه سوى المزيد من التطرف، وقررت التوسع في تشكيل مجالس للفتوى في المساجد للرد على طلبات الجمهور المستفتي ومواجهة نفوذ الخطاب الديني السلفي الذي تمدد لتعويض إقصائه من الإمامة والخطابة في دور العبادة.
واختارت وزارة الأوقاف لهذه المهمة عددا من الأئمة والمفتين من علمائها، ومن رجال الأزهر، وبدأت تعتمد بشكل أكبر على الواعظات لتقديم الفتاوى الدينية النسوية، بحيث تحكم قبضتها على الفتاوى الخاصة بالذكور والإناث على حد سواء، عبر فقهاء وفقيهات تم تدريبهم قبل إدراجهم في مجالس الإفتاء وتوزيعهم على المساجد رسميا.
وكانت الفتوى ولا تزال أحد أقوى أسلحة جماعة الإخوان والقوى السلفية لمناكفة النظام المصري، ردا على ثأر سياسي أو محاولة الحفاظ على ما تبقى من وجودهم على الساحة، فالمهم ألا يبتعدوا عن المشهد الديني كليا، بحيث يصبح مدخلا للتأثير على الناس واستمالة فئات منهم عبر تقديم أنفسهم رجال فتوى غير تابعين لجهة رسمية.
وقوبل قرار تأنيث الفتاوى الدينية بإشادة من مؤسسات ومنظمات نسوية، لأن فتح مجال الفتوى والوعظ أمام المرأة يعود بالنفع على المجتمع، حيث يكرس المساواة بين الجنسين، ويمهد للتخلص من النظرة الدينية الضيقة للفتاوى المرتبطة بالسيدات وتصويرهن دائما على أنهن ناقصات عقل ودين.
قائمة من المحظورات
التمكين الإفتائي للمرأة بات ضرورة ملحة
يبدو أن المؤسسة الدينية أدركت أن التمكين الإفتائي للمرأة أول محطات وقف التشدد ضد النساء، فعلى الأقل تمهد الخطوة إلى تغيير العقلية الذكورية المناهضة لها، كما أن تأنيث الفتاوى لا غنى عنه باعتبار أن المرأة الأقرب إلى النساء من الرجل في حسم القضايا ذات الطبيعة الخاصة بالأنثى، وهي الثغرة التي طالما نفذت إليها نساء سلفيات.
وبعيدا عن مزايا خطوة توسيع فكرة مجالس الإفتاء في المساجد، سواء أكان أعضاؤها علماء أم فقيهات، فإن هناك تحديات تقف عائقا أمام نجاح هؤلاء المفتين في مواجهة العناصر المتطرفة، في الفضاء الحقيقي العام أو الإلكتروني، وعلى رأس تلك المعوقات، أن أعضاء هذه المجالس محاطون بقائمة طويلة من المحظورات.
هناك تحذيرات بعدم التطرق إلى كل ما هو سياسي في الخطابة أو جلسات المساجد أو حتى مجالس الإفتاء، مع الابتعاد عن النبش في قضايا جدلية والتوجيه الدائم بالالتزام بما يتفق مع رؤية وزارة الأوقاف بشأن الموضوعات الدينية والاجتماعية، ما يجعل العديد من المفتين الرسميين غير مستقلين في ردودهم على الجمهور.
ولا تزال إشكالية البعض من أئمة المساجد والمتخصصين في مجال الفتوى أنهم يفتقدون إلى الحد الأدنى من التحرر الفكري والديني، ما يضعف مواقفهم أحيانا عند تفنيد حجج المتشددين وادعاءاتهم، فهم يتحركون وفق خطط محددة تضعها وزارة الأوقاف ولا يحيدون عنها في غالب المواقف.
ويرى متابعون للمشروع الدعوي الخاص بمجالس الإفتاء أن التحدث إلى الجمهور المستفتي بنبرة تنسجم ضمنيا مع الخطاب الرسمي لوزارة الأوقاف يصب في صالح التيارات المتشددة التي تم إنشاء هذه المجالس لمبارزتها وهزيمتها في الميدان، وطالما أن كل مفت يخشى على نفسه التطرق لقضايا حساسة أو يخاف من التعرض للمساءلة، فإنه سيُفتي وفقا لحسابات دقيقة تبعده عن الهدف المطلوب.
صحيح أن الرقابة مطلوبة على الخطباء والمفتين والوعاظ، كجزء من التحرك السريع لإقصاء كل صوت متشدد يستثمر المساجد لنشر أفكار هدامة، لكن معضلة وزارة الأوقاف أنها تضع رجالها طوال الوقت تحت الضغط والرصد والتتبع والتهديد بالعقاب الرادع، كي لا يتسبب أيّ منهم في مشكلة تكون لها تداعيات سياسية، فهم في النهاية يمثلون جهة رسمية.
وقال سامح عيد الباحث المتخصص في شؤون الإسلام السياسي إن إنشاء مجالس إفتاء في المساجد خطوة ضرورية لسد فراغ الفتوى في مناطق تمركز السلفيين والتيارات المتطرفة، لكن لا تزال مشكلة جهات الفتوى أنها تتحرك كرد فعل ضد خطر المتشددين ولا تسبقهم بخطوات قبل أن يكونوا منابر للإفتاء في نظر الناس.
ضغط ورصد وتتبع
الرقابة مطلوبة على الخطباء والوعاظ والمفتين
وأضاف لـ”العرب” أن الالتزام الحرفي من رجل الفتوى بخطاب ديني ودعوي، وأجندة محددة لا يحيد عنها، يعرقل نجاح مجالس الإفتاء، والمطلوب ترك هذه الفئة تتحدث بأريحية طالما أنها مؤهلة لذلك، لأن الدعوة الدينية التي لا تلبي تطلعات الناس ستجد مشكلة حقيقية في هزيمة الأصوات المتشددة، معربا عن خشيته من أن تكون هذه المجالس صورة نمطية من خطب المساجد التقليدية.
ومنذ قيدت وزارة الأوقاف حرية الأئمة في اختيار الموضوعات التي يتحدثون فيها بخطبة الجمعة، والكثير من مضامين هذه الخطب يبدو بعيدا عن اهتمامات المجتمع، ما يدفع البعض للبحث عن منابر أكثر استقلالية، ويتعاملون مع صلاة الجمعة كجزء من الالتزام الديني وليس البحث عن التثقيف الفقهي حول موضوعات وقضايا هامة.
وما يعزز خطورة الالتزام بإطار محدد في إصدار الفتاوى أن دار الإفتاء وهي الجهة المنوط بها حسم المسائل الدينية عندما طرحت استفتاء على صفحتها الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) وسألت جمهورها عن الجهة المفضلة لديهم للحصول على الفتوى، تبين أن 70 في المئة من الناس تحصل على فتاواها من مواقع إسلامية.
يمثل تراجع ثقة الكثير من الناس في الفتوى الرسمية تحديا مضاعفا أمام مجالس الإفتاء في المساجد لاستقطاب أكبر قدر ممكن من جمهور المنصات والمواقع التابعة لتيارات إسلامية متطرفة، ما يتطلب الابتعاد عن سطحية الفتوى طالما أن انغلاق الخطاب الدعوى الرسمي وغياب التجديد يقودان إلى ارتفاع منسوب التشدد وتسريع المتطرفين خطواتهم للنفاذ إلى المجتمع.
ويكمن التحدي الأكبر أمام مجالس الإفتاء في تلك النظرة المريبة من الأغلبية المجتمعية لسياسة وزارة الأوقاف وقراراتها التي بدت من خلالها وكأنها تنفذ أجندة حكومية لتوظيف الخطاب الديني سياسيا، مع أن الحكومة تزعم أنها بريئة من كل ذلك.
تحديات متزايدة
انطباع خاطئ لدى البعض حول التماهي بين ماهو سياسي وماهو ديني
والمشكلة الحقيقية في شخصية وزير الأوقاف مختار جمعة الذي اعتاد التبرع بمحاباة ودعم السلطة في الصواب والخطأ، وهو ما قلل من جدوى ما يحمله خطابه المتكرر.
وأكد سامح عيد أن التماهي السياسي من بعض المنابر الدينية مع الحكومة في قضايا بعيدة عن المجال الدعوي، أعطى انطباعا بأن ما ينبثق عن المؤسسة الدينية يحمل أجندة سياسية، مع أن ذلك غير دقيق، لكن هذا شعور راسخ عند المتابعين للمشهد، وأحيانا تقوم تيارات دينية متطرفة بتوظيف ذلك في الطعن في الفتاوى الرسمية لخدمة مصالحها المشبوهة.
ويتطلب نجاح مجالس الإفتاء في مهمة انتزاع الفتوى من شيوخ السلفية، أن تقوم وزارة الأوقاف بالكف عن تسييس الخطاب الدعوي، لأن ذلك ينعكس سلبا على صورة رجل الدين الذي يمثلها في الشارع والمسجد والإعلام، ومع الوقت لم يعد يشعر البعض بالراحة تجاه آرائه حتى أصبح مستهلكا بدعوى خلفيته الحكومية.
تماهي بعض المنابر الدينية مع الحكومة في قضايا بعيدة عن المجال الدعوي، يعطى انطباعا بأن ما ينبثق عن المؤسسة الدينية يحمل أجندة سياسية
ولم تعد الآراء الدينية التي صارت تصدر عن المؤسسة الدينية بذات القدسية كما الحال في الماضي القريب، وهذا يصبّ في صالح التيارات المتطرفة التي أصبحت تعوّل على تراجع ثقة الناس في الداعية والمفتي الرسمي، بحجة أن هذا أو ذاك موجه لإقناع الناس بأشياء محددة، ولو كان الرأي الديني حولها لا يزال محل جدل ونقاش.
ويصعب فصل اهتزاز ثقة البعض في الخطاب الديني الرسمي المرتبط بقضية أو فتوى تحسم جدلا بعينه عن التخبط بين المؤسسات الدينية نفسها حول بعض الأمور والقضايا الهامة والموضوعات المصيرية، فهذه الجهة تحلل والأخرى تحرم من دون الاستقرار على رأي قاطع، وهذا أيضا ينعكس بالتبعية على مجالس الإفتاء.
ومهما بلغ علم أعضاء هذه المجالس واجتهادهم ستظل تلك المجالس تواجه إشكالية مرتبطة برواج الفتاوى الإلكترونية المتشددة، وتعاني من كونها جزءا من وزارة تتماهى مع الحكومة على طول الخط، ما يتطلب قدرا من الاستقلالية لتكون مجالس الإفتاء بداية ترميم الصورة الذهنية السلبية عن الخطاب الدعوي كمدخل لهزيمة خطاب التشدد.
المصدر : العرب اللندنية