جاد الكريم الجباعي
كاتب سوري
نقصد بفكر الصحوة الإسلامية، الفكر الذي تأثر بالثورة الإسلامية، في إيران، بصورة مباشرة أو غير مباشرة. فما سمّي بالصحوة الإسلامية في العالم العربي، لم يكن إلا صدى لتلك الثورة، التي خدعت الكثيرين، مثلما خدعتنا الثورة البلشفية، التي انتهت إلى نظام تسلطي (توتاليتاري). فقد أنتج فكر الصحوة نزعة تراثوية لا عقلانية تلبست معظم المفكرين العرب، منهم قوميون يساريون وشيوعيون.
وقد تجلت اللاعقلانية واللاأخلاقية، بالتلازم الضروري، في انتعاش الاتجاهات السلفية الجهادية والأصولية المقاتلة.
إن قباحات الإسلام السياسي وقباحات دعاته ترجع إلى تفكير ما سمي الصحوة الإسلامية وإلى النزعة التراثية التي ولدتها
وقد بينت مآلات “الصحوة”، التي استلهمت الثورة الإيرانية، والعناصر السلفية والأصولية في فكر النهضة الأولى، أو محاولة النهضة، في العهد الليبرالي، كما بين تراجع المتراجعين والمراجعين، وعناد المعاندين، أنّ فكر الصحوة تخطى حدود اللاعقلانية إلى العدمية، التي تسم التطرف والإرهاب، وكانت النزعة التراثية، الماضوية، عنوان هذه العدمية، وأنتجت تراثويين، يعيشون الماضي في الحاضر، ويستأنفون نزاعاته وصراعاته، على كل صعيد، ولا سيما على صعيد الفقه والإفتاء، لإخضاع الحاضر لمنطق الماضي، وإثارة النزاعات المذهبية بين المسلمين أنفسهم، وتصعيد العداوة والصراع مع غير المسلمين.
لا تقتصر اللاعقلانية في التراث والنزعة التراثية على إحياء العناصر الخرافية والأسطورية والغيبيات والمعجزات، التي يحتويها التراث فحسب؛ بل تتعداها إلى النظر إليه، والنظر فيه، على أنه شيء مستقل بذاته عن وارثيه، ومستقل، من ثم، عن الزمان – المكان، وأنه مستودع المعرفة وموطن الحقيقة، وأن “الأمة” لا يصلح أمرها إلا بما صلح به أولها، فتتعين اللاعقلانية، من ثم، في السلفية والماضوية والأصولية، المولدة للعنف والإرهاب، علاوة على التباس التراث بكل من الذاكرة والتأريخ التباساً تتولد منه جميع أوهام “الخصوصية” و”الأصالة”، أوهام الهوية، فيغدو (هو) ما يحدد نظرتنا إلى الطبيعة والعالم والإنسان وإلى المرأة بوجه خاص، ويغدو “العقل” مقبرة مفتوحة للأسلاف، والثقافة استظهاراً ومحاكاة، والمعرفة تذكراً، والإرادة تسليماً بالقضاء والقدر، والحياة انتظاراً للأجل المحتوم، ومعبراً إلى جنة الحور العين.
العناصر اللاعقلانية، واللاأخلاقية ذاتها هي التي تقبع في خلفية فكر الصحوة، وخاصة الفكر الذي يبشر بثورة إسلامية ودولة إسلامية أو خلافة إسلامية، ويدعو إلى الجهاد في سبيلها؛ فقد كتب برهان غليون في الثورة الإيرانية قائلاً: “بعد سنوات الاغتراب الطويلة، يبدو كما لو أنّ النخبة المثقفة العربية التقت نفسها، في لهب الأحداث الإيرانية، وكان تبنيها السريع لها وسيلة بلا ريب للتعبير عن مشاغلها الذاتية، وعن رفضها للوضع العربي الراهن.
وهكذا جاءت الثورة الإيرانية في الوقت المناسب، لتعيد إلى الوجدان العربي المثلوم فرحَه الزائل، وإلى الشعور العميق بالخيبة أملاً متجدداً في القدرة على استملاك العالم من جديد.
فالتقت في هذه المناسبة التاريخية العروبةُ روحَها الإسلامي الضائع، كما التقى الإسلام موطنه العربي الجافي .. الإسلام الذي عمد نفسه في أعظم ثورة شهدها النصف الثاني من القرن العشرين، مطالب اليوم أن يحقق الحلم الذي عجرت عن تحقيقه الأيديولوجيات الماضية، القومية والماركسية” [1].
ما ألمح إليه غليون إلماحاً قاله محمد عابد الجابري صراحة، في تعريف مشروعه الموسوم بنقد العقل العربي: “التراث العربي الإسلامي يغلفنا تغليفاً قوياً، وإذا ادعى أحد منا أنه مستغن عن هذا الغلاف متحرر منه فليعترف أنه مسكون بهوية أخرى غير الهوية العربية الإسلامية. إما أن يكون غلافنا العربي الإسلامي لباساً قابلاً للتجديد، ليغدو مناسباً لروح العصر وتحدياته ومتطلبات التقدم فيه، أو أنه قوقعة تكيف الجسد بدل أن يكيفها الجسد. .. فنحن لا نخفي أن مشروع نقد العقل العربي بأجزائه الأربعه محاولة لتحويل القوقعة إلى لباس”[2].
خارجية التراث عن الوارثين صريحة، عند الجابري وغيره، كخارجية اللباس عن الجسد وكذلك استقلال مادته عن كيانهم، والأيديولوجيا الإقصائية فاقعة في نص الجابري: من يدعي أنه مستغن عن هذه القوقعة / الهوية، فليعترف (فعل أمر مؤكد باللام) أنه مسكون بهوية أخرى، غير الهوية العربية الإسلامية (وإن حسابه لعسير)! ماذا لو كان المدعي مسكوناً بهوية إنسانية فقط، أو بهوية وطنية سورية أو تونسية أو مغربية، ماذا إذا كان لا يؤمن بما يؤمن به الجابري من تماهي العروبة والإسلام أو تضايفهما؟
لم يملك الجابري إلا أن يصدع بالحقيقة الآتية: “ما نشهده اليوم من تحديث للعقل العربي وتجديد للفكر الإسلامي يتوقف ليس فقط على مدى استيعابنا للمكتسبات العلمية والمنهجية المعاصرة، مكتسبات القرن العشرين وما قبله وما بعده، بل أيضاً ولربما بالدرجة الأولى يتوقف على مدى قدرتنا على استعادة نقدية ابن حزم وعقلانية ابن رشد وأصولية الشاطبي وتاريخية ابن خلدون، هذه النزعات العقلية التي لا بد منها إذا أردنا أن نعيد ترتيب علاقتنا بتراثنا بصورة تمكننا من الانتظام فيه انتظاماً يفتح المجال للإبداع، إبداع العقل العربي داخل الثقافة التي يتكون فيها[3].
فكر الصحوة تخطى اللاعقلانية إلى العدمية التي تسم التطرف والإرهاب وكانت النزعة التراثية الماضوية عنوان هذه العدمية
إحياء وتأصيل، أي سلفية وأصولية، تحت راية “الإصلاح” أو “الثورة”، هذه هي مفارقة الصحويين، الذين يفوتهم أن التراث الإسلامي الحي في النفوس والرؤوس، والمتعين في البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية هو التراث العثماني، والمملوكي من قبله؛ فلا تستقيم العقلانية مع شطب خمسمئة سنة من التاريخ، وقبلها خمسمئة أخرى، كأنها لم تكن.
لذلك نعتقد أن الجابري محق في اعتبار “القطاع الأوسع من فكرنا المعاصر (هو) “القطاع الذي يُنعت بالأصولي حيناً وبالسلفي حيناً آخر”.
أما تخرُّصات القطاع الآخر، “الذي لا تاريخ له”، والذي يدعو إلى الحداثة والتجديد، فتظل تخرُّصاتٍ ما لم تتأصل في التراث، وتنتظم فيه.
إذا كانت النتائج، تحمل أسبابها في جوفها، وهي، من ثم، مرجع أساسي من مراجع التفكير النقدي، الراجع (Feed back) والمستقبلي في آن، ندعي أن قباحات “الإسلام السياسي” وقباحات دعاته، التي نسمع ونرى، ترجع إلى تفكير ما سمي الصحوة الإسلامية، وإلى النزعة التراثية التي ولدتها تلك الصحوة، والتي أنتجت من الفتاوى والتأويلات والأفعال ما يندى له الجبين.
هوامش:
[1] – برهان غليون، الوعي الذاتي، ط 2 (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1992)، ص 79.
[2] – محمد عابد الجابري، العقل الأخلاقي العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، (امركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2001)، ص 28.
[3] – محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، ط 9 (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009) ص 552.
نقلاً عن حفريات