كتب – منير أديب
التحولات الدراماتيكية التي حدثت لجماعة “الإخوان المسلمين” في العشرية الأخيرة طرحت أسئلة عديدة، بخاصة أن التنظيم بات من أحد أهم علامات العنف في المنطقة والعالم بل ومحركاً لها، فإلى أي مدى يمكن أن يراجع التنظيم نفسه؟ وما جدوى هذه المراجعة؟ وهل يمكن أن تتعامل الدولة مع “الإخوان” بالصيغة نفسها التي تعاملت بها مع “الجماعة الإسلامية المسلحة” في مصر في العام 1997 وبعدها تنظيم “الجهاد الإسلامي” ومجموعات أخرى حملت السلاح في وجه الدولة؟ والسؤال الأهم، هل “الإخوان” مؤهلون لمراجعة أفكارهم؟ أم أن المراجعات المطروحة والطلبات التي تقدم بها “الإخوان” لا تُعبر عن روح التنظيم الوثابة للعنف؟ وأن هذه الطلبات مجرد تراجع وليست مراجعة؟
ترجمت أجهزة الدولة هذا الحرص في رعايتها المبادرات الفكرية والفقهية التي خرجت من السجون المصرية، بل كانت أجهزة الأمن تحرض عليها في السابق بهدف إنهاء الصراع المسلح لهذه التنظيمات، وأجهزة الأمن هنا كانت تواجه هذه التنظيمات بقوة وفي الوقت نفسه تحاول أن تغير أنماط تفكيرها بعد مراجعة هذه الأفكار العنيفة، وهذا دليل قوة الدولة التي لا تدّخر وسعاً في رعاية مواطنيها حتى وإن أخطأوا.
سمحت بالمراجعات الفكرية ووفرت لهذه المراجعات بيئة أنتجتها وساعدت القيادات والأفراد على المراجعة.
الدولة التي تمُد يدها لمن أخطأوا حتى يصححوا مسارهم، لن تتساهل مع من أوغل في العنف أو تلوثت يداه بالدماء، التحريض على المراجعة كان قمة القوة من الدولة، التي اختارت الوقت المناسب لذلك، ثم أنها أدارت هذا التحول الاستراتيجي في عقول قادة الدم وأمرائه حتى وصلت بهم وبالمجتمع إلى بر السلام.
أجهزة الأمن في تسعينات القرن الماضي كانت تقيم جلسات مناصحة وتوعية داخل السجون لأمراء العنف، فكانت تستجلب علماء الأزهر الشريف والمفتين إلى السجون في محاولة لتصحيح مفاهيم هؤلاء المتطرفين، ولكن هؤلاء المتطرفين كانوا يرفضون أن يسمعوا لهؤلاء العلماء بعد أن يعطوا ظهورهم لهم، رافضين مجرد السماع، فضلاً عن احترام هؤلاء العلماء، وفي كثير من الأحيان يقومون بوضع أيديهم على آذانهم خشية أن يتسرب ما لا يريد هؤلاء أن يصل إلى عقولهم.
وهذا دليل على أن الدولة بأجهزتها كانت حريصة على تغيير أفكار هؤلاء المتطرفين في وقت مبكر، ولكنهم لم يكونوا حريصين على أن يكونوا مواطنين أصحاء في هذا المجتمع “جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً”.
الدولة تضع يدها في يد كل من يُريد أن يصحح المسار ولكن شرط أن يكون صادقاً في ذلك، تفعل ذلك من دون أن تخالف القانون والدستور في معاقبة من ارتكبوا الجرائم وعدم التهاون في ما يمكن أن يمثل خطراً على أمن الدولة، معادلة تبدو صعبة ولكنها تحققت.
الدولة تتعامل بحكمة مع المراجعات الفكرية لقادة العنف، رغم أن بعضهم انقلب عليها، فهي لم تأخذ الكل بجريرة بعض قادة العنف الذين انقلبوا على أفكارهم، ودائماً تنحي الهوى وتضع ظنها في الموضع الصحيح مقدمة مصلحة الدولة وأمنها على أي مصلحة أخرى، هذه كانت الدولة دائماً وهذا سلوك أجهزة الأمن المصرية.
في البداية، هل “الإخوان المسلمون” مؤهلون للمراجعة؟ رغم ظني بأن التنظيم غير مؤهل لهذه الخطوة إلا أن عدداً من شباب التنظيم لديه الرغبة في المراجعة الفكرية والفقهية والتخلي عن أي أفكار تدعو الى الكراهية أو الإنحياز لمشروع الفوضى، فرغم أن “الجماعة الأسلامية” خاضت فصولاً من العنف إلا أنها كانت أشد صدقاً من “الإخوان” في هذه المساحة وكان لديها استعداد لذلك.
أزمة جماعة “الإخوان المسلمين” في أنها تظن أنها على حق، فلا تترك مساحة للمراجعة أو التراجع، بدءاً بالمناهج التربوية التي تحرض على العنف وانتهاء بتكلسات تنظيمية تدفع بالحرس القديم أو من يمثلون التيار القطبي آلة تولي القيادة، وهنا تغيب أي مراجعة على مستوى القيادة أو حتى على مستوى القاعدة العريضة من أفراد التنظيم.
هدف أجهزة الأمن المصرية هو تفكيك التنظيمات المتطرفة من الناحية التنظيمية والفكرية أيضاً، أي أنها تعمل على مستويين، أحدهما أمني استخباراتي يتعلق بتفكيك هذه التنظيمات والآخر فكري يتعلق بتفكيك الأفكار المؤسسة لهذه التنظيمات، صحيح أن عملية تفكيك الأفكار تتعلق بدور المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية، ولكن يتم ذلك بتحريض ورعاية من الأجهزة الأمنية التي لا تتوانى عن القيام بهذه المهمة بشقيها.
اللواء المرحوم أحمد رأفت، مدير جهاز أمن الدولة سابقاً، عندما قام برعاية المبادرات الفكرية لـ”الجماعة الإسلامية المسلحة”، وفي أول اجتماع لمجلس شورى الجماعة “المسجون” أحب أن يسمع لهم فعرض أحدهم حل التنظيم! فباغتهم الرجل الثاني في جهاز الأمن الوطني وقتها بالرفض، وقال عبارته المشهورة: حل التنظيم يأتي في وقت لاحق، لا بد من أن تطرحوا أفكاراً تفككوا من خلالها أفكار العنف التي أصّلتموها، وكانت وجهة نظر هذه القيادة الأمنية الفريدة، أن هؤلاء المتطرفين هم الأقدر على التأثير في شبابهم وتفكيك ما أصّلوه من عنف، على أن يكون ذلك برعاية المؤسسة الدينية في مصر، التي أشرفت على تأصيل الأفكار الدينية التي تراجع من خلالها هؤلاء المتطرفون عما كانوا يؤمنون به من عنف.
“الإخوان المسلمون” لم يصلوا الى مرحلة المراجعة ولن يصلوا اليها بسهولة شديدة، فمهمة الدولة مع قادة العنف في تسعينات القرن الماضي كانت أسهل بكثير من مهمة تهيئة “الإخوان” للمراجعة، ما قد يكون صادقاً هو مراجعة بعض الشباب فقط، الذين تركوا أفكار التنظيم فعلياً، أما قادة التنظيم فيبحثون عن حل لمشكلتهم أو عن تراجع تكتيكي وليس مراجعة حقيقية، وهذا موضع مهم يجب الانتباه إليه.
وهذا لا يمنع الدولة من التحريض على المراجعة الفكرية والفقهية، بخاصة أن “الإخوان” نجحوا في تحصين تنظيمهم وأفكارهم من أي تحولات قد تطرأ عليهم. صحيح أن التنظيم لم يعدم هذه التحولات ولكنها كانت في إطار التشدد وليس في إطار التسامح والسير في المسار الصحيح.
نقلاً عن “النهار العربي”