كريتر نت – عربي بوست
شبَّه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسَه بقيصر روسيا الخامس، بطرس الأكبر، الذي قاتل السويد وسيطر على قسمٍ من أراضيها وفنلندا وأجزاء من إستونيا ولاتفيا، وهي الدول التي تخشى في هذه الأيام هجوماً من موسكو على غرار عمليتها العسكرية في أوكرانيا.
وفي لقاءٍ مع رواد أعمال شباب بموسكو، في 9 يونيو/حزيران 2022، قال بوتين: “زرنا للتو معرضاً مخصّصاً للذكرى الـ350 لميلاد بطرس الأكبر، إنه أمر مدهش! كأن شيئاً لم يتغيّر، بطرس الأكبر خاض حرب الشمال على مدار 21 عاماً”.
وأضاف: “عندما أسس بطرس الأكبر عاصمة جديدة (سان بطرسبرغ) لم يعترف أي من بلدان أوروبا بأن هذه الأراضي تابعة لروسيا، كان العالم بأسره يعتبرها جزءاً من السويد”. وبرر بوتين الهجوم الروسي على أوكرانيا بالقول إن بلاده تحاول الآن استعادة “أراضيها الأصلية”، تماماً كما فعل حاكم روسيا بطرس الأكبر، في بداية القرن الثامن عشر.
يُعتبر بطرس الأكبر أعظم مَن حكموا روسيا؛ وُلد في الكرملين عام 1672 وحَكَم روسيا خلفًا للقيصر فيودر الثالث وهو في سن التاسعة، لكن شقيقته صوفيا عُيّنت بدلاً منه وحاولت إقصاءه، قبل أن يُطيح بها حين أصبح في الـ17 من عمره وينفيها إلى دير نوفوديفيتشي- حيث أُجبرت على أن تُصبح راهبة- ثم يتسلم زمام الحكم في العام 1689.
حكم بطرس في البداية بصفته قيصراً، ومن ثم إمبراطوراً؛ في العام 1700، حين بَنى جيشاً قوياً، شنّ “الحرب الشمالية” ضدّ السويد وفنلندا وإستونيا ولاتفيا، وانتصر. كما حقق مكاسب توسّعية كبيرة، حوّلت روسيا القيصرية إلى إمبراطورية.
أسّس مدينة سان بطرسبرغ عام 1703، وجعلها عاصمةً للبلاد، وأسّس كذلك القوات البحرية. يوصف بطرس الأكبر بـ”صانع نهضة روسيا الحديثة”، بسبب انفتاحه على الفكر الأوروبي، الذي كان سبباً لانتقاده في الوقت نفسه.
من هو بطرس الأكبر، وكيف وصل إلى الحكم؟
عندما توفّي والده القيصر أليكسيس عام 1676، كان بطرس في الرابعة من عمره فقط، فتولّى أخوه الأكبر غير الشقيق العرش. كان فيودور الثالث مريضاً في الواقع، وقد كانت السلطة عملياً في أيدي أقارب والدته، آل ميلوسلافسكي، الذين حرصوا على دفع بطرس وعائلة والدته آل ناريشكين إلى الظلّ.
عندما توفي فيودور في العام 1682، اندلع صراع شرس على السلطة بين آل ميلوسلافسكي وآل ناريشكين. أراد الفريق الأول أن يصل إيفان الخامس، شقيق فيودور، إلى العرش، فيما تشبثت عائلة ناريشكين ببطرس.
لاحقاً، تمّ إعلان بطرس وأخيه غير الشقيق إيفان معاً، كقيصرٍ مشترك. لكن، وبسبب صحة إيفان غير المستقرّة وصغر سنّ بطرس، عُيّنت صوفيا أخت إيفان وصيةً على العرش، وهي في الـ25 من عمرها.
سيطرت صوفيا على الحكومة، وقد كانت ذكيةً وفاعلة ومؤثرة. في ذلك الوقت، استُبعد بطرس من ممارسة الشؤون العامة، وعاش مع والدته في قريةٍ صغيرة بالقرب من موسكو من دون أن يتلقّى التعليم المعتاد لقيصرٍ روسي.
في أوائل العام 1689، ارتبط بطرس بالجميلة إيدوكسيا إيفدوكيا لوبوخينا في زواجٍ رتّبته والدته ناتاليا ناريشكينا، بهدف إظهاره كرجلٍ بالغ يمكنه الحكم، حتى لو لم يتخطَّ الـ17 عاماً.
وفي أغسطس/آب من العام نفسه، خطّط بطرس للاستيلاء على السلطة ودفع أخته غير الشقيقة خارجاً. ساعده على ذلك ضعف موقع صوفيا حينها، بسبب حملتين فاشلتين لشبه جزيرة القرم قادتهما ضدّ خانات القرم؛ في محاولةٍ لوقف غارات تتار القرم على جنوب روسيا.
وحين علمت صوفيا بخطة بطرس، تآمرت مع بعض القادة على إثارة الشغب. لكن بطرس هرب إلى واحدٍ من الأديرة لا يمكن اختراقه، وهناك جمع أتباعه وخطّط للإطاحة بصوفيا. وبالفعل، استولى بطرس على السلطة وحكَمَ بالمشاركة مع أخيه غير الشقيق إيفان الخامس.
أُجبرت صوفيا على دخول دير نوفوديفيتشي، حيث تخلّت عن اسمها ومنصبها، كعضو في العائلة المالكة.
لم يستطع بطرس السيطرة على الشؤون الروسية، إلا بعد وفاة والدته، التي كانت عملياً صاحبة السلطة. وعندما توفيت في العام 1694، أصبح بطرس (22 عاماً)، ملكاً مستقلاً على روسيا. وبعد وفاة إيفان في العام 1696، أصبح الحاكمَ الوحيدَ.
آزوف.. أول إنجازات بطرس الأكبر
صحيحٌ أنها كانت قوة إقليمية كبيرة حين تسلّم الحكم، لكن الهدف الأساسي لبطرس الأكبر كان مرتبطاً بالسياسة الخارجية: خلق منفذٍ إلى البحر الأسود، أو بحر قزوين، أو البلطيق.
فجاءت أولى الخطوات في هذا الاتجاه من خلال الحملات التي أطلقها عامَي 1695 و1696، بهدف الاستيلاء على آزوف من تتار القرم من أجل تأمين الحدود الجنوبية ضدّ غارات التتار، والاقتراب أيضاً من البحر الأسود.
في العام 1696 استولى على آزوف، وبدأ بناء أسطولٍ بحري كبير على الشاطئ الشمالي لمصب نهر الدون.
لاحقاً وفي العام 1697 ذهب بطرس إلى أوروبا الغربية مع السفارة الكبرى، التي كانت تتألف من نحو 250 شخصاً، وهدفت بشكلٍ أساسي إلى دراسة الوضع الدولي وبناء تحالفٍ بوجه العثمانيين. هذا علناً، لكن الرحلة كانت تهدف أيضاً إلى جمع معلومات حول الحياة الاقتصادية والثقافية في أوروبا.
حينها، سافر بطرس متخفياً باسم الرقيب بيوتر ميخائيلوف واطلع بنفسه على الأوضاع في البلدان الغربية المتقدّمة.
درس بناء السفن على مدى 4 أشهر، وعمل نجاراً للسفن في هولندا، ثم ذهب إلى بريطانيا حيث واصل دراسته لبناء السفن واشتغل في حوض بناء السفن التابع للبحرية الملكية في ديبتفورد.
خلال ذلك الوقت، أجرى بطرس مفاوضات مع الحكومتين الهولندية والبريطانية للتحالف ضدّ العثمانيين، لكنه فشل في جذبهما لا سيما أن الدولتين كانتا منشغلتين في حرب الخلافة الإسبانية.
حرب الشمال وبناء سان بطرسبرغ
عندما أصبح واضحاً أن النمسا تستعد للحرب من أجل الخلافة الإسبانية، تخلّى بطرس عن خططه ضدّ العثمانيين، من أجل التقدُّم من بحر آزوف إلى البحر الأسود. ومن خلال معاهدة السلام الروسية العثمانية التي أُبرمت في إسطنبول عام 1700، تمكّن من الاحتفاظ بملكية آزوف وبدأ يصوّب اهتمامه نحو بحر البلطيق.
كان السويديون احتلّوا كاريليا وإنغريا وإستونيا وليفونيا، وسدّوا طريق روسيا إلى ساحل البلطيق. لكن ولطردهم، شكّل بطرس التحالف الكبير الذي ضمّ روسيا إلى جانب ساكسونيا والدنمارك والنرويج، والذي بدأ حرب الشمال في العام 1700.
استمرّت هذه الحرب 21 عاماً، وكانت المشروع العسكري الرئيسي لبطرس، حيث حشد جميع موارد روسيا من أجل تحقيق النصر.
نجحت روسيا بالاستيلاء على نارفا عام 1704، ثم ليسنايا في 1708، وبولتافا في العام 1709، حيث عانى تشارلز الثاني عشر (ملك السويد) من هزيمة نكراء.
تمكن بطرس في هذه الموقعة من سحق الجيش السويدي والقضاء على قوته الصاعدة في شمال غربي وشمال وسط أوروبا، ما أجبر الملك السويدي شارل إلى الهرب صوب الدولة العثمانية لاجئاً، فيما عملَ بطرس على توسيع رقعة دولته إلى شمال شرقي أوكرانيا وبيلاروسيا وجزء كبير من بولندا الحالية.
قبل ذلك الوقت، كان بطرس قد شرع، عام 1703، في بناء مدينة سان بطرسبرغ على ضفاف نهر نيفا، الذي يصبّ في خليج فنلندا، وأسَّسها كعاصمة جديدة لروسيا في العام 1712.
شرع بطرس في بناء عاصمة جديدة لروسيا بعيداً عن موسكو؛ فكانت سان بطرسبرغ التي بناها على الطراز الغربي، والقريبة من بحر البلطيق، تُعبّر -كما يقول الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي ويل ديورانت في موسوعته “قصة الحضارة”– عن مستقبل ورؤية جديدة للبلاد.
كتب ديورانت: “لقد كان في بطرس من شدّة الشوق إلى تغريب روسيا ما دفعه إلى تحويلها صوب البلطيق، كأنه يجرّها إليه جرّاً. وفي سبيل هذا الهدف، وفي سبيل توفير قاعدة لأسطوله وميناء للتجارة الخارجية، ضحَّى بكل الاعتبارات الأخرى”.
وتابع قائلاً: “صحيح أن الميناء سيحيط به الجليد 5 أشهر في السنة، لكنه يعني أن بلاده ستواجه الغرب وتلمس البحر”.
في سبتمبر/أيلول 1721 تمّ التنازل عن شواطئ بحر البلطيق الشرقية لروسيا، وفُتحت الطريق للسيطرة الروسية على بولندا. واحتفالاً بهذا الانتصار التاريخي، منح مجلس الشيوخ لقب إمبراطور إلى بطرس بدلاً من قيصر، في نوفمبر/تشرين الثاني.
هل يطبّق بوتين وصايا بطرس الأكبر؟
خلال سنوات حكمه التي استمرَّت أكثر من ثلاثين عاماً، نجح الإمبراطور بطرس الأكبر في بناء استراتيجية سياسية وعسكرية تضمن استمرارية القوة الروسية في العالم. وهذه الاستراتيجية، التي دوّنها على شكل وصايا لخلفائه من بعده، كُتبت قبل ثلاثة قرون.
دارت أغلب وصايا بطرس الأكبر حول إخضاع مناطق القوقاز والقرم والبلطيق وأوكرانيا، وضرورة ديمومة التهديد الروسي لفنلندا والسويد، إضافةً إلى جعل الكنيسة الأرثوذكسية في مكانةٍ مرموقة عالمياً وقِبلة المسيحيين، فضلاً عن لعب الروس على استثارة النزاعات والخلافات بين القوى الأوروبية.
في المادة الأولى من وصايا بطرس، يحضُّ صنّاع القرار الروس على ضرورة استمرارية الحرب، “فمن الضروري أن تعتاد العساكر على الحرب والقتال دائماً، وينبغي للأمة الروسية أن تكون على أُهبة الاستعداد، مع ضرورة ترك وقت لراحة العساكر من أجل إصلاح الشؤون المالية، وتنظيم العساكر باستمرار حتى يحين الوقت المناسب للهجوم”.
وصايا بطرس الأكبر الموجودة في كتاب “تاريخ الدولة العلية العثمانية” لمحمد فريد، تشدّد أيضاً على أنه “ينبغي لروسيا أن تستفيد من وقت الصلح والأمان في زيادة مؤنها وتوسيع مجال منافعها، فتتخذ من الصلح وسيلة للحرب”.
في حديثٍ إلى “سكاي نيوز عربية”، يصف المحلل السياسي الروسي ماكلويد شولمان عصر بوتين بأنه “تجسيدٌ روسي معاصر لشخصية بطرس الأكبر”.
ويُضيف شولمان أن بوتين، ومنذ توليه السلطة، يبدو أنه يؤمن بوصايا بطرس الأكبر ويحاول تنفيذها، من بينها “ضرورة وديمومة جاهزية الجيش وأن تكون الأمة الروسية على أهبة الاستعداد”، حيث خاض بوتين خمس عمليات عسكرية منذ اعتلائه السلطة؛ أولاها حرب الشيشان في العام 2004 وآخرها أوكرانيا، بخلاف الأنشطة العسكرية غير الرسمية خارج البلاد.
وأوضح أن الرئيس الروسي يقدّر بشدّةٍ الدور الذي لعبه القيصر بطرس الأكبر في تاريخ روسيا، بحيث جعلها قوة إقليمية رائدة ولاعباً مهمّاً على الساحة الأوروبية، وهو هدف أسمى يسعى إليه بوتين ويكرّره في خطاباته.
كثيراً ما يُبدي بوتين إعجابه ببطرس الأكبر، حتى إن عدداً من المفكّرين والاستراتيجيين الذين التقوه، يتحدثون عن تجسيده شخصية القيصر. وعلى سبيل المثال، فقد ذكر هارَلد مالمغرام، مستشار عدد من الرؤساء الأمريكيين مثل كينيدي ونيكسون وفورد، أن بوتين أبدى عدة مرّاتٍ تقديره لبطرس الأكبر.
وفي مقالٍ نُشر في يناير/كانون الثاني من مطلع هذا العام (2022)، يقول مالمغرام: “كنتُ مقتنعاً بأن بوتين يعتبر نفسه تجسيداً لبطرس الأكبر. لم أحلّ ضيفاً على الكرملين منذ العام 1988، لكن قيل لي إن بوتين يعلّق صور بطرس الأكبر في غرف الاجتماعات المهمّة، بدلاً من صوره الشخصية”.