د. محمد علي السقاف
طبيعة الأحداث الدولية الكبرى تنعكس تداعياتها بشكل أو بآخر على أطراف النزاع مباشرة وعلى المشهد السياسي الدولي بشكل عام.
الحرب العالمية الأولى واتفاقية فرساي أفرزتا فكرة تأسيس «عصبة الأمم» في عام 1919، وأدى فشل «عصبة الأمم» في القدرة على تأسيس السلم والأمن الدوليين، إلى العمل على إيجاد منظمة عالمية جديدة أفضل وأكثر فاعلية من عصبة الأمم، أي طرح فكرة قيام الأمم المتحدة، وكتابة ميثاقها الذي أصبح بمثابة دستور عالمي ومرجعية لدول العالم للاحتكام لمبادئه التي ترتكز على مبدأ المساواة في السيادة بين الدول المحبة للسلام، وتكون عضويتها مفتوحة لجميع الدول.
إقرار مؤتمر سان فرنسيسكو مبدأ المساواة في السيادة بين الدول المحبة للسلام، لم يمنع أن تقوم الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية بأن تفرد لنفسها صلاحيات في مجلس الأمن الدولي، الأداة الرئيسية لحفظ الأمن والسلم الدوليين، وتتولى بحكم قدراتها وإمكاناتها العسكرية والمادية الحفاظ على الأمن الجماعي.
والسؤال المطروح الآن: هل بالإمكان إجراء مقاربة بين نتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية اللتين أدتا إلى تأسيس عصبة الأمم، ثم الأمم المتحدة، وبين حرب أوكرانيا؟ أم أن هذه المقاربة بين الحدثين مبالغ فيها وليست صحيحة لكون أبعاد الحربين العالميتين لا يمكن قياسها بحرب أوكرانيا لاختلافات جوهرية وعميقة بين الحدثين؟ أم أن المقاربة هنا المقصود بها ليس أن الدول الكبرى قد تعمل على إنشاء تنظيمات دولية جديدة كعصبة الأمم والأمم المتحدة وإنما في إجراء تغييرات هيكلية في المنظمات الدولية القائمة، والقبول بإجراء هذه التغييرات التي كانت مطروحة في السابق كمشاريع تم التحفظ عليها ورفضها بالكامل، فيما يخص توسيع نطاق العضوية في مجلس الأمن الدولي في إطار الأمم المتحدة؟
ثم ألم تؤدِّ إحدى نتائج الحرب الروسية – الأوكرانية إلى توسيع نطاق العضوية في منظمة الناتو، وهو ما كان غير متصور حدوثه قبل الحرب بأن تتقدم كل من فنلندا والسويد بطلب العضوية؟ أليس مدهشاً وفق الاقتراح الفرنسي الذي أطلقه الرئيس ماكرون للالتفاف على طلب أوكرانيا الانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي التي قد تستغرق 15 أو 20 عاماً بأن عرض عليهم أن تنخرط كييف خلال هذه الفترة في المنظمة السياسية الأوروبية التي اقترح ماكرون إنشاءها؟
في جولة الرئيس الأميركي جو بايدن لبعض الدول الآسيوية اقترح قبول اليابان عضواً دائم العضوية في مجلس الأمن، ما يوحي بأحد أمرين؛ إما أن هذا الاقتراح يصب في إطار الضغوط التي تريد الولايات المتحدة ممارستها على الاتحاد الروسي، وحليفته الصين الشعبية، وإما أن هذا التصريح يشكل تغييراً في الموقف الأميركي، وربما الدول الغربية في المجلس التي كانت هي وبقية الأعضاء الدائمين في المجلس يعترضون على مبدأ إجراء أي تعديل في تشكيلة العضوية الدائمة في مجلس الأمن باعتبار ذلك أحد المكاسب التي حصدوها بعد انتصارهم في الحرب العالمية الثانية. والمفارقة هنا التي يتوجب الإشارة إليها هي أن الولايات المتحدة وبريطانيا في إطار الأزمة الأوكرانية كانتا قد اقترحتا طرد روسيا من العضوية الدائمة في مجلس الأمن.
حرص واضعو ميثاق الأمم المتحدة على أن يكون مجلس الأمن الدولي من بين أجهزته الرئيسية «جهاز» يمثل دور السلطة التنفيذية في المجتمع الدولي، بما له من سلطات وقدرات تساعد على أداء الدور المنوط به بسرعة وفاعلية، نظراً لأهمية المهام التي أنابته المنظمة الدولية في القيام بها.
ووضع مؤتمر «يالطا»، اللبنة الأولى للحلفاء المنتصرين في الحرب، تشكيلة مجلس الأمن الدولي التي تمت صياغتها في نص المادة (23) المعدلة من الميثاق، التي نصت على أن:
1- يتألف المجلس من خمسة عشر عضواً من الأمم المتحدة. وتكون الصين، وفرنسا، واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، والمملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وآيرلندا الشمالية، والولايات المتحدة أعضاء دائمين فيه. وتنتخب الجمعية العامة عشرة أعضاء آخرين من الأمم المتحدة ليكونوا أعضاء غير دائمين في المجلس. ويُراعى في ذلك بوجه خاص، وقبل كل شيء، مساهمة أعضاء الأمم المتحدة في حفظ السلم والأمن الدوليين وفي مقاصد الهيئة الأخرى، كما يُراعى التوزيع الجغرافي العادل.
2 – يُنتخب أعضاء مجلس الأمن غير الدائمين لمدة سنتين، على أنه في أول انتخاب للأعضاء غير الدائمين، بعد زيادة عدد أعضاء مجلس الأمن من أحد عشر عضواً إلى خمسة عشر عضواً، يُختار اثنان من الأعضاء الأربعة الإضافيين لمدة سنة واحدة والعضو الذي انتهت مدته لا يجوز إعادة انتخابه على الفور.
3 – يكون لكل عضو في مجلس الأمن مندوب واحد.
ويلاحظ مما سبق أن انتخاب الدولة عضواً غير دائم في مجلس الأمن يتطلب، وفق المادة (23) المعدلة، مدى مساهمة تلك الدولة في حفظ السلم والأمن الدوليين ومقاصد منظمة الأمم المتحدة من جهة ومن جهة أخرى أن يكون انتخاب الدول على أساس توزيع جغرافي عادل، حتى تتمكن جميع المناطق الجغرافية الأساسية في العالم من أن تُمثَّل في مجلس الأمن، لذلك قررت الجمعية العامة توزيع المقاعد غير الدائمة على الشكل التالي: ثلاثة مقاعد للدول الأفريقية، ومقعدان لأميركا اللاتينية، ومقعدان للدول الآسيوية، ومقعدان لأوروبا الغربية، ومقعد لأوروبا الشرقية.
وحصل اتفاق شرف بين المجموعة الأفريقية والآسيوية مؤداه أن يوجد عضو عربي في مجلس الأمن، فتارة تُمثَّل دولة عربية من حصة أفريقيا، وتارة دولة عربية من حصة آسيا، علماً بأن عدد الدول العربية يوازي عدد دول أميركا اللاتينية التي تتمتع بمقعدين في مجلس الأمن، منذ كان عددها ثلث أعضاء المنظمة، في حين ارتفع عدد أعضاء المنظمة حالياً إلى 193، وهي ما زالت تتمتع بالقدر نفسه من المقاعد. ورغم كل ذلك، فإن الولايات المتحدة تحاول جاهدة وبالتواطؤ مع إسرائيل في معظم الأحيان، إبعاد الدول العربية المناهضة للسياسة والهيمنة الأميركية عن العضوية في مجلس الأمن. فبسبب تلك المآخذ على المادة (23) طالبت غالبية الدول الأعضاء في المنظمة بتعديلها وجعلها مرنة، بحيث تتلاءم مع المتغيرات الدولية، وتسمح بالتمثيل العادل لمختلف تنوعات مناطق العالم.
ولم تقتصر المطالبة بإصلاح العضوية في مجلس الأمن وفي تشكيلته على مجموعة الدول غير دائمة العضوية، بل تطرق الأمر إلى أبعد من ذلك بخصوص الأعضاء الدائمين في المجلس وحق «الفيتو».
ولم يكن مستغرباً أن أحداً ممن نادوا بضرورة تغيير تشكيلة مجلس الأمن، وكان ذلك أحد أسباب عدم تجديد انتخابه لولاية ثانية، الدكتور بطرس بطرس غالي. فقد قام بمناسبة الدورة السابعة والأربعين لاجتماع الجمعية العامة في 11 ديسمبر (كانون الأول) 1992 بدعوة الدول الأعضاء إلى تقديم اقتراحاتها الخاصة بمراجعة العضوية في المجلس بهدف زيادة أعضائه. وعليه، أعلنت ألمانيا واليابان عن طموحهما في أن تصبحا عضوين دائمين في المجلس. وفي 10 ديسمبر 1993، شكّلت الجمعية العامة مجموعة عمل خاصة بمعالجة قضية توسيع مجلس الأمن، واقترحت المجموعة عضوية جديدة شبه دائمة تمنح لبعض الدول ذات الوزن الإقليمي، كالهند ونيجيريا والبرازيل ومصر، ولكن تم انتقاد فكرة أعضاء دائمين أو شبه دائمين.
وتوالت المقترحات والأفكار على مستوى العدد مع أو من دون حق النقض من قبل قيادات أممية كالراحل كوفي أنان. واللافت للنظر أن الأمين العام الحالي، حسب متابعتنا، لم يتقدم بمقترح حول هذا الموضوع، ولم يعلق على تصريح الرئيس بايدن بترشيح قبول اليابان عضواً دائماً من دون أن يحدد مع حق «الفيتو» أم لا.
بناءً على تصريح الرئيس بايدن، يتطلب الأمر الآن استغلال ظروف حرب أوكرانيا من أجل تفعيل المقترحات والمشاريع الخاصة بالأعضاء الدائمين، وإعطاء البعض منهم حق استخدام النقض كالدول الخمس الكبرى. إنها مرحلة مواتية للقوى الإقليمية، والعربية منها بصفة خاصة، لمحاولة إعادة النظر في تركيبة مجلس الأمن الموروث من نتائج الحرب العالمية الثانية، وأيضاً في الوقت الذي تشكل فيه حرب أوكرانيا بداية ميلاد نظام دولي جديد وقوى دولية أخرى مؤثرة.
نقلاً عن الشرق الأوسط