محمد صلاح
ما زال الناشط ينشط! وما زالت شعوب ودول تدفع ثمن نشاطه، فصفته كناشط سياسي ربما تعوّض فشله المهني أو منطقه السياسي أو تغيير الظروف من حوله.
نعم فرض الناشط السياسي، في عصر مواقع التواصل وصحافة المواطن وتطور تقنيات الاتصال، حضوره على الجميع، بعدما استغل تغييرات طرأت على سوق الإعلام، فصار في بؤرة الضوء بقليل من المعرفة وكثير من الاهتمام في الشكل وطريقة الظهور وافتعال الجدل وإحداث الصخب. حينما اكتشفت الشعوب ألاعيب الناشطين وحيلهم وتنبهوا إلى عقولهم الآلية وقلوبهم الميكانيكية، تحوّل كل ناشط إلى آلة للسخرية من الناس والتهكم عليهم، ومارس حقده وكراهيته ضد ضحاياه البسطاء الذين وجدوا أن حياتهم من دونه أكثر هدوءاً وسلاماً وحريةً! وعندما قررت الجموع الاحتشاد للعمل وتعويض ما فات والتخلي عن الفوضى والتعصب والكراهية والسعي إلى التقدم بالعقل كان صاحبنا يحصد ثمار خداعه لهم وضحكه عليهم.
قبل الربيع العربي لم يكن مصطلح “الناشط السياسي” متداولاً في مصر بكثرة، إذ ظلت الوجوه الفاعلة على المسرح السياسي من خارج دوائر الحكم، تنتمي غالباً إلى أحزاب سياسية، أو الى الباحثين والأكاديميين المتخصصين في العلوم السياسية، أو قادة الرأي أصحاب المواقف النضالية، أو المسؤولين السابقين الذين يرتدون عباءة المعارضة بعدما يخلعون عن أنفسهم، أو يُخلع عنهم، رداء المسؤولية الحكومية.
لكن شظايا الربيع العربي التي قسّمت دولاً وفتتت مجتمعات وأسقطت أنظمة طرحت على الناس وجوهاً لم تكن لها أنشطة سياسية لافتة، أو مواقف عملية مؤثرة، وعرّفتهم بأنهم “ناشطون سياسيون” احتلوا لاحقاً الاستوديوات وسلطت عليهم المصابيح، وفرضت صورهم على الجميع، فاحترفوا الكلام في السياسة واحتكروا تفسير الأحداث وتوقع التطورات في المستقبل.
ذاع صيت الناشطين وتحولوا نجوماً تتسابق الفضائيات على استقبالهم وتفخر الميادين بوجودهم، وتنقل الصحف والمواقع الإلكترونية عنهم التصريحات والقرارات، وتتسابق الدول والجهات الخارجية على استدعائهم ليتحدثوا عن مجتمعاتهم التي سعوا إلى تغييرها، والثورات التي خططوا لتفجيرها، والمستقبل الذي رسموه لمجتمعاتهم من أجل تطويرها.
بدا وكأن المصطلح تحوّل إلى مهنة لذلك الشخص الذي عليه أن يتقن التمثيل على الناس أنه يضحي من أجل مساعدتهم، ويُظهر الإنسانية ويسعى لإسعاد البشر، ويختلق المواقف ويؤلف العبارات للإيحاء برغبته في صنع التعايش بين الجماهير ليشعروا بالسعادة وليس البؤس، والرفاهية وليس الضنك، والثراء وليس الفقر، وينبذ الكراهية ويؤكد قيم التسامح بين أبناء الوطن، ويرسم صورة وردية لمجتمع ما بعد الثورة الخالي من الطمع والظلم والفساد، ويوزع الأحلام على البسطاء بالرفاهية والعيش الكريم.
وللناشط مؤهلات، إذ لا بد من أن يجيد استخدام تكنولوجيا الاتصال الحديثة والأجهزة المعقدة والمتطورة ويستثمر مهاراته للتحكم فيها، ويتقن تمثيل الدور ليوهم من حوله بأنه ضحّى وترك عمله وأهله من أجلهم، ويستخدم ذكاءه في الخداع وحبك القصص والحكايات وصنع الأكاذيب.
يتعين أيضاً أن يكون ذكاؤه حاداً قاسياً عدوانياً، يفكر كثيراً ويشعر قليلاً، يحتاج إلى الاستوديوات والكاميرات والمصابيح وأجهزة الكومبيوتر أكثر من حاجته للإنسانية والشفافية ليقنع الناس أن مشاهد العنف هي صور بريئة، وأن مناظر الدماء لوحات خالدة، من دون أن يتأثر بمعاناة ضحاياه الذين انساقوا خلفه، ففقدوا سلامتهم أو بيوتهم أو حياتهم! وعد صاحبنا جماهيره بالتقدم الإنساني وتحقيق كل الأماني بالسير معه في طريق الثورة ثم تركهم وحدهم تتقطع بهم السبل، أو ليفقدوا أوطانهم، بينما هو كالراقصات يتنقل من محفل إلى آخر ويُحتفى به في الدوائر الخارجية عندما يسرد مسيرة حياته النضالية وقصص كفاحه البطولية وصموده ضد الطغيان، وعندما يحكي عن الثورة التي صدّرها للناس، والحرية التي سعى إلى تحقيقها لأهله وناسه، وهو الذي احتقرهم ولعب بهم وأملى عليهم معتقداتهم ومشاعرهم، وتعاطى معهم كوقود لحربه من أجل أن يحقق لنفسه الرفاهية!
نجح الإعلام الغربي، ومعه الآلة الإعلامية الضخمة لـ”الإخوان المسلمين”، في توجيه وعي الناس ليتعاطفوا أولاً مع الناشطين ثم ليثقوا فيهم ثم يصدقوهم، وشارك الإعلام المحلي، بوعي أو من دون وعي، في عملية تزييف كبرى، فأبرز وجوهاً سليطة اللسان ليس لها أي تاريخ سياسي، وطرحهم كأصحاب أفكار عروبية أو إسلامية ومواقف وطنية ضد إسرائيل والسياسات الغربية، ودخل الناشطون كل بيت، بينما كان بعضهم يقضون أوقاتهم سراً مع أعداء الأمة، وآخرون منهم حلّوا ضيوفاً على كارهي العرب، وبعضهم كان ينسق يوماً بيوم بل ساعة بساعة مع من ظلوا على مدى سنوات طويلة يضعون الخطط لهدم الدول العربية وتفتيتها.
في مرحلة لاحقة وعلى مرأى ومسمع من الجميع جهاراً ونهاراً، بل وليلاً أيضاً، صارت اللقاءات مع أعداء الأمس تُعقد وحملات الاغتيال المعنوي تُشن ضد كل من يكشف أو يعترض أو يغضب أو ينتقد، فالناشطون نالوا الصفة العالمية وحازوا شهادات من مراكز حقوقية أجنبية، وصارت لهم شخصية اعتبارية دولية، لكن الناس يدركون لماذا ينال الناشط وساماً، ولم تحصل الناشطة على جائزة؟ ولماذا يسافرون كثيراً ويُحتفى بهم طويلاً؟ فالسادة يؤدون أدواراً مرسومة ولا يمكن أن تنطفئ المصابيح أو ترحل عنهم العدسات، يجب أن يبقوا في بقعة ضوء ليحتفظوا بالقدرة والتأثير في إطفاء أنوار الحياة لدى شعوبهم!
نقلاً عن “النهار” العربي