خالد بشير
كاتب أردني
دفع التحوّل المذهبي في إيران، الذي جاء مع تأسيس الدولة الصفوية مطلع القرن السادس عشر، باتجاه تشكيل هوية جديدة مركّبة على أساس قومي ومذهبي مغاير للمحيط العربي السنّي في أغلبه، الأمر الذي صاغ، وما يزال، شكل العلاقة بين الطرفين، وجاءت ثورة العام 1979 لتضفي أدواراً وطبيعةً جديدةً على السياسة الخارجية للدولة الإيرانية، فجاءت بانعكاسات وتأثيرات مباشرة على المنطقة العربية، ما ضاعف وكثّف من الحمولات والدلالات التي تحملها الصور المتباينة لدى العرب عن هذه الدولة.
نموذج للحكم الإسلامي
أعطى نجاح ثورة عام 1979، وتأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران، دفعة وحافزاً كبيرَين للحركات الإسلامية حول العالم، وفي العالم العربي تحديداً، فبعد عقود من التنظير والكتابة عن شكل الدولة والحكم الإسلامي المنشود، جاء الخميني، المرشد الأعلى للجمهورية الجديدة، ليعلن حكماً إسلامياً يقوم على مبدأ ولاية الفقيه، في دولة كبرى ومهمة بحجم إيران.
كانت الحركات الإسلامية في مقدمة المؤيدين والمباركين للثورة الإيرانية، وسرعان ما تداعت الحركات الإسلامية للقيام بتحرّك مشابه، فقام الجهاديون في مصر باغتيال الرئيس المصري، أنور السادات، عام 1981، في خطوة اعتبرت حينها بمثابة إعلان الثورة على الحكم في مصر، وصعدت الحركات الإسلامية الشيعية في كلّ من العراق ولبنان، بقيادة حزب “الدعوة الإسلامية”، و”حزب الله”، التي أعلنت اقتداءها بالنموذج الثوري الإيراني في سبيل تأسيس حكم إسلامي مناظر في البلدان العربية، إلّا أنّ قيام الحرب العراقية – الإيرانية، عام 1980، ولمدة ثمانية أعوام تالية، وما رافقها من تجييش طائفي من الطرفين، وانتشار الكتيبات والأشرطة التي تحذّر من الثورة الإيرانية ومشروعها، وتعدّها مشروعاً “صفوياً” و”مجوسياً”، كان من أشهرها كتاب مثل “وجاء دور المجوس”، للشيخ محمد سرور، الذي ظهر وطبع طبعات عديدة، كلّ ذلك ساهم في دفع قطاعات واسعة باتجاه التراجع عن النظرة لإيران، باعتبارها نموذجاً للحكم الإسلامي المنشود.
معركة القادسية الثانية
فقد العرب موقع الحكم والدولة منذ سقوط بغداد على يد المغول، عام 1258، وهو ما استمرّ حتى مطلع القرن العشرين، في حين قامت دول عدّة في إيران خلال هذه الفترة، وإثر نهاية الحرب العالمية الأولى وقيام ونشوء الدول العربية المعاصرة، تعزّز الشعور لدى العرب بوجود خطر من قبل إيران، وذلك منذ ضمّ إمارة الأحواز عام 1925، ومن ثم احتلال الجزر الإماراتية الثلاث عام 1971، إضافة إلى المطالبات المستمرة بضمّ البحرين، وبـ “شط العرب”، لكنّ العلاقات ظلّت مضبوطة في ظلّ حسابات الحرب الباردة واعتماد الولايات المتحدة الأمريكية إستراتيجية “الركيزتين”، وما تقتضيه من موازنة للتحالف مع كلّ من إيران والمملكة العربية السعودية.
انقلبت الأحوال بعد ثورة عام 1979، مع بروز مساعي وشعارات إيران بتصدير الثورة إلى دول الجوار العربي، فكانت الحرب العراقية – الإيرانية (1980- 1988) الاستجابة الأولى والمباشرة لتلك الشعارات، وكرّست خلال هذه الأعوام صورة إيران، باعتبارها العدوّ الذي يقف خلف الأسوار ويتربصّ بالعرب للانقضاض عليهم، وقامت آلة الإعلام العراقية آنذاك باستعادة صور ورمزيات تاريخية، فكرّست صورة الحرب باعتبارها “حرب القادسية الثانية”، بما يستدعيه ذلك من دلالات تاريخية، وتذكير بالمواجهة العربية الحاسمة مع الفرس، ما عزز صورة سلبية عن جمهورية إيران الإسلامية عند قطاعات واسعة من العرب، وبلور صورتها باعتبارها “عدواً”.
الهلال الشيعي
تمكنت إيران خلال الحرب الأهلية اللبنانية من تعزيز نفوذها في الساحة اللبنانية، وتأسيس ودعم حركات مرتبطة بها، كحزب الله، وحركة أمل، وبعد حرب الولايات المتحدة الأمريكية على العراق، عام 2003، وما نتج عنها من سقوط لنظام الحكم العراقي، أتيحت الفرصة أمام إيران لتوسيع نفوذها في العراق، واعتمدت في ذلك على القوى السياسية الشيعية التي كانت تعلن الولاء والتقارب معها ومع ثورتها، وبذلك تنامى دورها في العراق، وبدأ العرب باستشعار الخطر، وتزايد الحديث بين الكتّاب والقادة العرب عن خطر “الهلال الشيعي”.
ومن ثم جاءت أحداث “الربيع العربي”، وما رافقها من أزمات، وأتى معها التدخل العسكري الإيراني المباشر وغير المباشر في سوريا، وتزايد نشاط “حزب الله”، ومع اندلاع الأزمة في اليمن، وتمكّن “الحوثيون” من دخول صنعاء، في أيلول (سبتمبر) 2014، وإعلانهم الولاء والتقارب مع طهران، تزايد نتيجة كلّ ذلك الشعور العربي بالخطر، وبدأ الحديث عن “احتلال أربع عواصم عربية” من قبل إيران بالتصاعد، وتعززت المخاوف العربية بفعل المضي الإيراني في البرنامج النووي والاقتراب من تطويرها وامتلاكها السلاح النووي، وتزايد الشعور بتهديدها الأمن القومي العربي، مع تفوّقها في مجال السلاح غير التقليدي، إضافة إلى التهديد المتكرر لمصادر النفط وحركة نقله.
العدوّ الأول
كلّ ذلك دفع بعدد متزايد من الإعلاميين والكتّاب وصنّاع القرار العرب باتجاه التصريح علناً، باعتبار إيران “العدوّ الأوّل”، الذي يجب التفرغ له، بما يقتضيه ذلك من اعتبارها عدوّاً أخطر من “إسرائيل”، التي لا تستشعر هذه القطاعات بأنّها تهددهم بشكل مباشر، ودفع ذلك باتجاه تصاعد الدعوات الصريحة المُطالبة بالمصالحة مع “إسرائيل” التي تعلن كذلك باستمرار عدائها لإيران.
الكاتب والناقد السعودي، عبد الله الغذّامي، في كتابه “نحن وإيران” (2016)، انفرد بتعبير خاصّ عن إيران وتوسعها في المنطقة؛ إذ يشبّهها ويقارنها بـ “الهتلرية” في أوروبا، فيقول، عند حديثه عن الهلال الشيعي: “كما لو تسمع مثلاً بأنّ ألمانيا تعلن تصدير الهتلرية، وتتباهى بأنّها تحتل أربع عواصم أوروبية، وأنّها تصنع هلالاً هتلرياً، وسط أوروبا، يؤدي تحية الرايخ”.
مقاومة وممانعة
على النقيض من الرؤى السابقة، تبلورت رؤية عربية لدى قطاعات من النخب والناشطين، خاصّة من التيارات اليسارية والقومية، حملت مضامين مغايرة فاتجهت لرؤية إيران بصورة إيجابية باعتبارها شريكاً وحليفاً في مواجهة مشاريع “إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة.
وتعود هذه الرؤية في جذورها إلى لحظة الثورة الإيرانية، عام 1979، حين هبّت مشاعر الفرح العربية بالفتح الكبير وتحطيم صنمية الشاه، الإمبراطور الحليف لأمريكا، وكانت وعداً بحدوث تحوّل كبير على مستوى السياسة في المنطقة، يتحقق مع انخراط دولة مهمة بحجم إيران، في قضايا المنطقة، وفي مقدمتها فلسطين.
ولعبت شخصية الخميني وخطاباته دوراً مهماً في تشكيل هذه الصورة، وكانت شعارات مثل “الموت لأمريكا”، وخطوات وحوادث مثل حصار السفارة الأمريكية في طهران بعد الثورة مباشرة، والإعلان عن طرد البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية من طهران، دافعاً كبيراً باتجاه تعزيز هذه الرؤية المتفائلة.
شهد هذا الخطاب قدراً من الالتباس ومراوحة المكان خلال الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات، لكن وفي أعقاب حرب الخليج الثانية، عام 1991، وما تلاها من تسارع لخطوات ما عرف بعملية التسوية والسلام في “الشرق الأوسط”، وانعقاد محادثات واتفاقيات، مثل “مدريد” و”أوسلو”، و”وداي عربة”، اتخذت إيران في هذه اللحظة جانب الممانعة لهذا المسار، واتجهت لتعزيز دعمها على الأرض للحركات المتعارضة معه، من حركات “حماس” و”الجهاد الإسلامي” الفلسطينيتين، إلى “حزب الله” اللبناني”، وبالتالي تعززت تدريجياً عند قطاعات من التيارات القومية واليسارية العربية رؤية إيران باعتبارها حليفاً في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، والمشروع الصهيوني، وجاءت دفعة جديدة لهذه الرؤية في أعقاب اندلاع أحداث “الربيع العربي”، وتصادم إيران مع المشروع المدعوم غربياً في سوريا، وكذلك تصادم حركة “أنصار الله” (الحوثيون)، حلفاء طهران، مع السعودية، حليفة الولايات المتحدة، في اليمن.
حامية وممثلة للشيعة
وتبلورت رؤية خاصّة عند قطاعات من الشيعة العرب إزاء إيران، وذلك باعتبارها دولة ممثلة للمذهب الشيعي على مستوى العالم، باعتبارها دولة ذات أغلبية شيعية، وبعدد سكان كبير نسبياً، وتعززت هذه النظرة في أعقاب الحرب على العراق، عام 2003، وذلك بفعل تصاعد خطاب “السنّة والشيعة” الطائفي، بالتزامن مع تراجع المشاعر القومية العربية، ما دفع بقطاعات
المصدر: حفريات