منير أديب
معظم استراتيجيات مواجهة الإرهاب مبنية على قاعدة منع الإرهاب، إذ تتركز المواجهة في منع تنفيذ العمليات الإرهابية بكل أشكالها، وهنا تتباهى أجهزة الاستخبارات بأنها نجحت في تقليل وتيرة العمليات الإرهابية أو أنها أنهت تهديداتها، وهنا تكمن الخطورة، فالإرهاب قد لا يكون نشطاً وقد لا يكون الإرهابيون قادرين على تنفيذ العمليات الإرهابية، ولكن هذا لا يمنع حدوثه!
فرق كبير بين أن توجه الجهود إلى منع الإرهاب أو تضيّق الخناق على الإرهابيين، وبين اقتلاع بذرة الإرهاب عبر إعطاء جرعة مناعة للضحايا المحتملين؛ الأولى تتركز على منع السلوك “الإرهابي”، أما الثانية فتتركز على إعطاء مناعة للمجتمع تجاه أفكار الكراهية، وقد يستلزم الأمر في بعض الأحيان نشر أفكار هذه الجماعات ثم تفكيكها، وإذا كان ثمة ذلك فالنخبة التي تتولى مهمة هذه المواجهة هي من يجب تحصينها بالمصل ذاته، حتى تكون قادرة على المواجهة.
المشكلة ليست في الإرهاب ولكن في نظرتنا إلى مواجهته والتي لا بد من أن تكون مبنية على الوعي وأن تستفيد من التجارب السابقة، ولعل هذه التجارب ترى خطر العمل على منع الإرهاب لسببين، أولهما أنها وسيلة غير مجدية؛ تقليل وتيرة العمليات الإرهابية لا يعني اختفاءها، والأمر الثاني، أن اختفاء الإرهاب “الموقت” قد يحرمني من رؤية مؤشر الخطر، وهو ما يؤدي إلى مزيد من الخطر في المستقبل.
لا يمكن لإنسان أن يكون صحيحاً من دون جهاز مناعة قوي يستطيع أن يكون حائط صد أمام الأمراض والعوارض، وما أكثرها، حتى ولو كانت بسيطة، وجود خلل في الجهاز المناعي أو إصابة الإنسان بمرض نقص المناعة يعني الوفاة حتى ولو بقي حياً لبعض الوقت على وجه الأرض، ويكفي أن حياته مهددة بصورة دائمة ومنطقية في الوقت ذاته.
مراكز التثقيف والمعاهد التربوية والإعلام والفن هي بمثابة الجهاز المناعي للمجتمع لمواجهة أي خطر يتهدده، وهنا لا بد لهذه الوسائل من أن تعمل وفق استراتيجية، فلا يقتصر دورها على رد الفعل، فصحة المجتمعات في أفكارها، الانغلاق يخلق تطرفاً والانفتاح بلا ضوابط يخلق الشيء نفسه، وهنا تبدو أهمية الاستراتيجية.
إذا كان الإرهاب حالة مرضية قد يتعرض لها الشخص أو المجتمع، فإن المناعة صناعة لمواجهة هذا المرض الطارئ، خطورة هذا النوع من الأمراض في طريقة مواجهته؛ فأي مرض تتم مواجهته بعد ظهور أعراضه، بخلاف الإرهاب الذي تجب مواجهته قبل لا بعد، إذا كنّا نريد سلامة المجتمع الحقيقية، وهنا تبقى أهمية أن يوضع المجتمع دائماً تحت عدسة المختصين والراصدين والباحثين، الذين يرصدون تحولات المجتمع بصورة دائمة، وبالتالي يواجهون ما لا يراه غيرهم من ظواهر قبل أن تستفحل.
سُئلت يوماً عن اليوم الذي ينتهي فيه الإرهاب أو يختفي أثره من الوجود؟ فقلت مختصراً في كلمات قليلة: عندما تختفي الحياة من الأرض؛ فالعنف والإرهاب حالة قد يعيشها الأصحاء والأسوياء، ولكنهم بحكم مناعتهم يتعافون منها بسهولة ويسر، وقد لا تتحول معهم هذه الحالة إلى ما نخشاه وهي الصورة المرضية، وهنا تبدو أهمية المجتمع ودوره.
أهتم كثيراً بالتفاصيل، ولذلك قد تقع عيني على عنف يمارسه الرجل العادي في الظروف العادية، وقد تجد هذه الحالة تصاحب المرء حتى وهو في بيت الله، فهو لم يؤهل نفسه أو لم يستطع أن يسيطر عليها أو اعتراه شيء ولم يتحلل منه ولم يتخل عنه، فتجده عنيفاً في قوله مع المصلين في مكان من المفترض أن يكون فيه رحيماً، هذه الحالة بات عليها الكثير من الناس في الشوارع ودواوين الحكومة، هؤلاء الأشخاص فقط يحتاجون مسحة دينية على سلوكهم العنيف، وهنا لن يكونوا مختلفين عن قادة العنف في تنظيمات الإسلام السياسي!
فوجئت بأن أبناء وأقارب شخصيات فنية ومثقفين كبّار ورجال أمن انجروا إلى طريق العنف، لم تمنع حياة أسرهم من انجرار هؤلاء إلى العنف، نظراً إلى غياب المناعة وهو ما ساعد على الاختراق، وهنا أرى دور المجتمع أهم وأبلغ من دور الأسرة رغم أهمية كل منهما؛ فكلما غابت الثقافة واختفى الفن ساد الظلام، وهنا قد يأخذ هذا الظلام حياة فلذات الأكباد وأعز ما نملك إلى طريق الشر.
وهنا تبدو أهمية المجتمع المدني ودوره في المواجهة، صحيح أن للدولة دوراً، ولكن دور المجتمع هو بمثابة المناعة التي لا يمكن قهرها أو الاستغناء عنها، كما أنه بمثابة المضاد الحيوي لأي مواجهة طارئة، فلا يمكن لأي إنسان أن يستغني عنهما ولا يمكن للحياة أن تبقى من دونهما.
لا بد من عقد ورش العمل لمناقشة آليات المواجهة وفق قاعدة المناعة والممانعة لا قاعدة المواجهة التي ينتهي أثرها عندما تشعر باختفاء التهديد، لا بد من أن يشارك المجتمع بأكمله في المواجهة، وألا يقتصر دور هذه المواجهة على الدولة أو أجهزة الأمن، فالدولة وأجهزتها تفعل ما لا يستطيع المجتمع المدني أو الأفراد فعله، وبالتالي على المجتمع المدني أن يكون فاعلاً ومؤثراً في دوره.
ما زلنا عاجزين عن فهم الظاهرة، وبالتالي غير قادرين على إيجاد صورة مواجهة على الأقل تكون قادرة على خلق مجتمع خال من الإرهاب، لا نعني الخلو التام، ولكن على الأقل أن نخلق مجتمعاً تغيب فيه بواعث الشر المتفجرة، وتختفي فيه ظاهرتا الكراهية والإرهاب، ونحن لدينا في ثقافتنا ما نستطيع أن نواجه من خلاله، ولذلك من المهم الانتباه إلى شكل المواجهة وطريقتها بعد رسم ملامحها.
عن “النهار” العربي