تشارلز كيني / سكوت موريس
اعتاد صناع السياسة الأميركيون عصر أيديهم في قلق شديد طيلة نحو عقد من الزمن في شأن “مبادرة الحزام والطريق”، وهي مشروع الاستثمار الهائل في البنى التحتية الذي تولت من خلاله الصين تمويل إنشاء جسور، وموانىء، ومحطات توليد الكهرباء وسكك حديدية، وإنفاق، وشبكات “الجيل الخامس” (جي 5 G) للخليوي، حول العالم. ولم توسع المبادرة نطاق بصمة الصين فحسب، بل أيضاً جعلت عدداً متزايداً من الزعماء العالميين مدينين لبكين، بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ إن بنوكاً صينية توفر التمويل اللازم لدفع تكلفة هذه البنية التحتية. وفي يونيو (حزيران) 2021، في اجتماع “مجموعة الدول ” السبع الصناعية الكبرى” [“جي7” G7] الذي عقد في المملكة المتحدة، كشف الرئيس جو بايدن عن استجابة الغرب حيال هذا البرنامج، وقد جاءت على شكل مبادرة “إعادة بناء عالم أفضل” Build Back Better World المعروفة أيضاً باسم “بي 3 دبليو” B3W [يتكرر الحرف ب” ثلاث مرات في الاسم الكامل للمبادرة، بالتالي يبتدأ الاسم المختصر بـ”ب 3″ B3].
ووعد بايدن بأن مبادرة “بي 3 دبليو” ستساعد على “تلبية الحاجات الضخمة للبنى التحتية في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط، “مع التركيز بصورة خاصة على معالجة قضايا المناخ، والبنية التحتيىة الرقمية، والمساواة بين الجنسين، والصحة.
وقد عرض الرئيس تفاصيل قليلة حول ما تشمله فعلاً “بي 3 دبليو”، إلا أن المبادرة طرحت بوضوح كبديل غربي من “مبادرة الحزام والطريق”.
لكن منذ ذلك الوقت دب الضعف في مبادرة “بي 3 دبليو”.
حتى إن الاسم قد ألغي، وذهب كضحية للإشكالية التشريعية التي رافقت مشروع قانون “إعادة بناء عالم أفضل”، وهو اقتراح تشريعي محلي أميركي اشتمل على أولويات متنوعة كحماية البيئة، وخفض أسعار الأدوية التي لا يمكن الحصول عليها إلا بوصفة طبيب، وتعميم مرحلة ما قبل المدرسة [قانون يعطي الأسر الأميركية كلها فرص وضع أطفالهم في حضانات الأطفال لمرحلة ما قبل الروضة، تكون ممولة من الدولة ضمن المجتمعاتها المحلي].
ويجري حالياً إعادة تسمية العلامة التجارية لمبادرة “بي 3 دبليو” كي تصبح “الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية” Partnership for Global Infrastructure.
ومع ذلك، فقد أعلن عن بعض مشاريع “بي 3 دبليو” في ربيع عام 2022. وتشمل قائمة تلك المشاريع، مؤسسة “شراكة في الاتصال الرقمي والأمن السيبراني” التي ستقدم هذا العام 3.45 مليون دولار (نحو 2.81 مليون جنيه استرليني) من الدعم المالي المقدم من حكومة الولايات المتحدة للتمويل الرقمي ومزودي خدمة الإنترنت.
وتضم القائمة تقديم مجموعة من المنح بقيمة 2.3 مليون دولار (نحو1.87 مليون جنيه استرليني) إلى صغار مزودي الطاقة الشمسية. وفي الإطار نفسه، ستوفر إدارة بايدن ما يصل إلى 50 مليون دولار (نحو 40.79 مليون جنيه استرليني) على مدى خمس سنوات لصندوق استئماني تابع لـ”البنك الدولي” يحاول توسيع نطاق رعاية الطفل، إذا خصص الكونغرس الموارد اللازمة لتلك المشاريع كلها.
إنها نفقات مهمة، لكنها تعني أنه بعد نحو عام من إعلان بايدن “بي 3 دبليو”، فإن التزامات إدارته حيال قضية تجديد البنية التحتية العالمية تضيف مبلغاً تافهاً يصل إلى 6 ملايين دولار (نحو 4.90 مليون جنيه استرليني).
وحتى إذا وافق الكونغرس على تخصيص الـ50 مليون دولار الإضافية، فهذا بعيد تماماً عن المليارات التي وعد بايدن بها في إعلانه الأصلي.
وعلى الرغم من ذلك، لا يشكل هذا الأداء الضعيف خسارة كبيرة، لأن مبادرة “بي 3 دبليو” تمثل النهج الخاطئ لمنافسة الصين في العالم النامي.
وإذ تشتهر الولايات المتحدة بأنها لا تحسن الاستثمار في بنيتها التحتية المادية والحفاظ عليها، لم يكن من المنطقي بالنسبة إليها أن تحاول بناء مشاريع بنية تحتية في الخارج.
من الأفضل ترك هذه النشاطات للمؤسسات الاقتصادية المتعددة الأطراف التي تؤدي فيها الولايات المتحدة دوراً بارزاً، وهي تحديداً “البنك الدولي” والبنوك الإقليمية المتعددة الأطراف كـ”بنك التنمية الأفريقي”.
وبغية خوض منافسة ثنائية مع الصين، يجب أن تستغل واشنطن نقاط قوتها، بما في ذلك، الاستفادة من نظام التعليم العالي الخاص بها الذي لا مثيل له.
وثمة خبر سار هو أن توفير التعليم للجيل التالي من القادة العالميين، بدلاً من محاولة اللحاق بشركات الإنشاءات الصينية، سيكون مكسباً بالنسبة إلى المكانة العالمية للولايات المتحدة، وكذلك الاقتصاد الأميركي.
إرساء الأساس
حينما أطلقت إدارة بايدن مبادرة “بي 3 دبليو”، حرص المسؤولون على عدم وصفها كمحاولة من أجل التباري وجهاً لوجه مع الصين، ولا شك أنهم كانوا قلقين من أن ينظر إلى تلك المبادرة العالمية التي يفخرون بعرضها، على أنها خطوة دفاعية محضة. ومع ذلك، بحسب ما ذكر أحد المسؤولين حين الكشف عن مبادرة “بي 3 دبليو” في المملكة المتحدة “لم نقدم حتى الآن بديلاً إيجابياً يعكس قيمنا ومعاييرنا وطريقتنا في القيام بالأعمال التجارية”.
ومن شأن هذا البديل أن يتعارض مع النموذج الصيني الذي يصب في مصلحة الشركات الصينية من خلال ربط القروض بالعقود.
في المقابل، تبدو أن الفكرة القائلة إن الولايات المتحدة لم تقدم في الماضي “بديلاً إيجابياً” [عن مبادرة حزام وطريق الصينية]، فكرة غريبة.
ففي العقد الأخير وحده، أطلقت الولايات المتحدة مبادرات “طاقة أفريقيا”، وهو برنامج يهدف إلى تزويد ملايين العائلات الكهرباء في تلك القارة، و”شبكة النقطة الزرقاء” التي تتعاون فيها كل من أستراليا واليابان والولايات المتحدة في الترويج لمصلحة تنمية بنية تحتية مستدامة على المستوى العالمي، و”تعزيز التنمية والنمو من خلال الطاقة” التي تساعد حكومات منطقة المحيطين الهادي والهندي، في توسيع نطاق الحصول على الطاقة.
وقد اختلفت هذه المشاريع عن “مبادرة الحزام والطريق” من حيث إن الولايات المتحدة خصصت لها قدراً ضئيلاً جداً من المال، ومعظم الأموال التي جرى تخصيصها كانت مستثمرة في شركات خاصة.
والمحزن أن الشكل الحالي لمبادرة “بي 3 دبليو” لن يغير هذه الديناميكية على الإطلاق.
بصورة عامة، ليس المقياس وحده هو الذي يضع الولايات المتحدة في موقع غير مؤات نسبياً في إنشاء البنى التحتية. إن الصين أفضل في البناء، على الصعيد المحلي وكذلك في أنحاء العالم كله.
وتهيمن الشركات الصينية على المشتريات التنافسية لمقرضي البنية التحتية البارزين كـ”البنك الدولي”.
ولقد ربحت [الشركات الصينية] عقود بنية تحتية خارج الصين ممولة من “البنك الدولي” في عام 2020 بقيمة 2.3 مليار دولار (نحو 1.87 مليار جنيه استرليني)، مقارنة بعقود الولايات المتحدة بقيمة 27 مليون دولار (نحو 22.05 مليون جنيه استرليني).
ومن أصل أكبر 20 مقاول بناء، يوجد 14 مقاول في الصين و6 في أوروبا، ولايوجد أي منهم في الولايات المتحدة.
ويعود الفضل في هيمنة الصين جزئياً إلى الإعانات المالية الحكومية، لكن لدى أخذ العوامل كافة في الاعتبار فإن تلك صفقة جيدة بالنسبة للدول النامية التي تتلقى فعلياً صدقة من دافعي الضرائب الصينين.
قد يزعم صناع السياسة الأميركيون أن المساعدات المالية [الحكومية] الصينية غير عادلة، لكن هذه الشكاوى لن تلقى آذاناً صاغية في الدول التي تستفيد من سخاء الصين.
استراتيجية إدارة بايدن في التنافس مع الصين تشمل تقديم الإعانات المالية للشركات الأميركية
يتمثل الخلل الأخطر في مبادرة “بي 3 دبليو” بأنها تبدو مرتكزة على نموذج رأسمالية التعامل الذاتي نفسه الذي دانت حكومة الولايات المتحدة الصين بسببه، إذ تشمل المكونات الأساسية لاستراتيجية إدارة بايدن في التنافس الاقتصادي مع الصين، تقديم إعانات مالية للشركات الأميركية. وتنفق “الوكالة الأميركية للتنمية الدولية” USAID معظم مواردها على شراء سلع وخدمات من الشركات الأميركية.
وكذلك سيوفر “قانون الابتكار” Innovation Act الذي أقره الحزبان الأميركيان الرئيسان، مليارات الدولارات من الإعانات الصناعية لزيادة إنتاج الولايات المتحدة من أشباه الموصلات.
والأسوأ من ذلك كله، أن المملكة المتحدة، حليفة الولايات المتحدة، باتت تقلد حالياً ردها.
ويعيد بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني توجيه الإنفاق المخصص للمساعدات نحو البرامج التي تستخدم “خبرات بريطانية ذات مستوى عالمي”، بحسب وصف تكرمت به وزارة الخارجية البريطانية لذلك النهج، كجزء من استراتيجيتها في تقديم الإعانة خلال شهر مايو (أيار) الماضي. وربما حذا أعضاء “مجموعة السبع” الآخرون حذو بوريس جونسون.
فمن المؤكد أن الاتحاد الأوروبي يبحث عن طرق لصرف المليارات من المساعدات إلى شركات أوروبية تخطط للاستثمار في بلدان نامية.
يذكر هذا الوضع ببداية “الحرب الباردة” [فترة من الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية امتد من منتصف القرن العشرين إلى أواخره]، حينما أطلق الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين “مجلس المساعدة الاقتصادية المتبادلة ” كرد على البرامج الاقتصادية التي تقودها أميركا كـ”خطة مارشال، و”منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية”، و”صندوق النقد الدولي”، و”البنك الدولي”.
وآنذاك، جرى الترويج لـ”مجلس المساعدة الاقتصادية المتبادلة” [اختصاراً، كوميكون] بوصفه طريقة لتعزيز التعاون الاقتصادي بين دول الكتلة الشرقية، إلا أن الـ”كوميكون” عمل فعلياً على خفض التدفقات التجارية الإجمالية للدول الأعضاء من خلال إقامة حواجز أمام التصدير والاستيراد مع بقية دول العالم.
وفي هذه المرة، ضمن استجابتها لنسخة أقوى بكثير قدمتها الصين، فإن الولايات المتحدة هي التي تقدم “نموذج بوتمكين” [تشير التسمية إلى الاتحاد السوفياتي استناداً إلى الدور الذي أدته السفينة البحرية بوتمكين في الثورة البلشفية] عن التعاون العالمي.
وإمعاناً في السخرية، فإن المؤسسات التي أنشئت في “مؤتمر بريتون وودز” [انعقد في سياق مشروع مارشال لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية] وحاول ستالين أن يواجهها، هي التي تلغي ضرورة اندفاع مبادرة “بي 3 دبليو” نحو البنى التحتية. يجب على الإدارة أن تعمل من خلال تلك المنظمات في سياق محاولة تحقيق أهدافها.
على مرأى من الجميع
إن الفاعل الواضح الذي يتقدم الجميع لجهة توفير بنية تحتية مستدامة على المستوى المطلوب في الدول النامية ليس البيت الأبيض، بل كيان موجود على بعد ثلاث عمارات منه، هو “البنك الدولي”.
ومنذ مدة طويلة، يدافع ذلك البنك عن المناهج التي تستند إلى السوق من أجل التنمية، ويدعم أيضاً استثمارات في البنية التحتية بمليارات الدولارات سنوياً في دول ذات دخل منخفض ومتوسط. ويفرض “البنك الدولي” قواعد المشتريات التي تشجع الشفافية والمنافسة الدولية (أي ما يعرف بـ”تكافؤ الفرص”) ويستفيد مما يصل إلى 46 دولاراً من التمويل المدعوم من قبل القطاع الخاص لقاء كل دولار من المال العام الذي تقدمه الحكومات.
وبدلاً من تبني أجندة ثنائية للبنية التحتية [بمعنى أنها تجري بين أميركا وكل دولة على حدة في العالم النامي] مع متابعة كصفقة على حدة عبر العالم النامي، يجدر بإدارة بايدن أن تركز على توجيه مزيد من أموالها المخصصة للمساعدة عبر تلك المؤسسات المتعددة الأطراف.
إذا كانت الإدارة تريد حقاً منافسة ثنائية مع الصين في التنمية العالمية، فيجب على الولايات المتحدة أن تستغل نقاط قوتها. ويتوجب عليها دعم مدينة “آن أربور” [التي تضم جامعة شيكاغو] وليس شركة “آمتراك” للخطوط الحديدية [التي تدير خطوط سكك حديد رئيسة في أميركا وكندا]، وتعزيز جامعة نوتردام، بولاية إنديانا [من خريجيها كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة]، وليس بلدة “نيورك” في نيويورك [تشتهر بمطارها الدولي]. استطراداً، إن نظام التعليم العالي في الولايات المتحدة هو موضع حسد العالم، ذلك أنه نظام وفر التعليم للقياديين في ميادين السياسة والأعمال التجارية من كل دولة تقريباً على سطح هذا الكوكب. تحاول الصين أن تقلد هذا النموذج، لكن الولايات المتحدة لا تزال تتقدم عليها بـ2 مقابل 1 من حيث عدد الطلاب الأجانب المسجلين لديها، بمن فيهم عديد من الطلاب الآتين من الصين نفسها.
وبالطبع، أهملت حكومة الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة ميزانيات البحوث العامة، وقلصت تدفق الطلاب الأجانب إلى الكليات الأميركية.
وقد بدأت هذه العملية في ظل الرئيس دونالد ترمب، لكن الرئيس بايدن لم يفعل شيئاً لتغيير هذا المسار.
إن هذا خطأ جسيم، لكنه خطأ يمكن لإدارة بايدن أن تعالجه من طريق تقصير فترات الانتظار لمواعيد التقدم بطلب الحصول على تأشيرة دخول طالب، وقد تمتد إلى سنة أو أكثر من ذلك، وكذلك عبر دعم “برنامج فولبرايت” الذي يقدم البعثات والزمالات للأميركيين من أجل الدراسة والبحث في الخارج وكذلك للباحثين الأجانب من أجل القدوم إلى الولايات المتحدة، إضافة إلى تمكين غير الأميركيين من الوصول إلى برامج القروض الطلابية الفيدرالية.
وبغرض إثبات دعمها المنافسة الدولية، يمكن للولايات المتحدة أن تزيد أيضاً التمويل الذي تمنحه للشركات التي تقدم قروضاً للطلاب الآتين من دول ذات دخل منخفض ومتوسط كي يدرسوا في البلد الأجنبي الذي يختارونه بأنفسهم. وتتلقى إحدى هذه الشركات، “بروديجي فايننس”، الدعم فعلياً من قبل “مؤسسة تمويل التنمية” الأميركية.
إن الفائدة العظيمة للمنافسة الاستراتيجية المستندة إلى الرأسمال البشري، تتمثل في أنها ستفيد الولايات المتحدة، فإلى جانب البرهنة على الانفتاح وبناء شبكة من الزعماء العالميين المتعاطفين مع أميركا، سيبقى الطلاب الذين يختارون المجيء إلى الولايات المتحدة فيها أحياناً ويصبحون جزءاً حيوياً من قدرات البلاد في البحث وريادة الأعمال.
وبدلاً من محاولة التغلب على الصين في نشاطها الخاص بواسطة أدواتها، تحتاج الولايات المتحدة إلى الالتزام من جديد برؤية لازدهار كوكب الأرض من خلال التعاون العالمي، والانفتاح، والشفافية، وتكافؤ الفرص. وحينما يتصل الأمر برأس المال المادي، فإن “البنك الدولي” وبنوك التنمية المحلية الإقليمية هي الأنسب في تحقيق هذه الأهداف.
في المقابل، حين يتصل الأمر برأس المال البشري، يمكن للولايات المتحدة، ويتوجب عليها، أن تأخذ زمام المبادرة، فتعيد فتح أبوابها أمام الطلاب والباحثين.
وفعلياً، تستند هذه الأجندة إلى القيم بطريقة لا تستطيع مبادرة “بي 3 دبليو” حتى أن تأمل في الوصول إليها.
تشارلز كيني وسكوت موريس هما زميلان متقدمان في “مركز التنمية العالمية”.
نقلاً عن أندبندنت عربية