عمرو فاروق
مرت العلاقة بين “الإخوان” والقضاء المصري، بالكثير من التطورات خلال المراحل الزمنية المختلفة، أبرزها مهاجمة حسن البنا، في ثلاثينات القرن الماضي، القوانين المدنية، مطالباً بإصلاحات تشريعية تتفق مع الشريعة الإسلامية، ومقاطعة المحاكم الأهلية، تحت عنوان “خطوات الإصلاح العملي”، وفق ما جاء في رسالة “نحو النور”، التي تضمنها كتابه الشهير “الرسائل”.
اتخذت جماعة “الإخوان” موقفاً حاداً من القضاء المدني، معتبرة إياه عدواناً على حاكمية الله، وبمثابة “طاغوت”، يشرّع من دونه، وفقاً لما صاغه سيد قطب في مدوناته، فخاضت ضد رموزه مواجهات دموية، بدأت مع إصدار المستشار أحمد الخازندار، حكماً بالأشغال الشاقة المؤبدة، على عناصر التنظيم، في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947.
أحمد عادل كمال، أحد قيادات “التنظيم الخاص”، يشير في كتابه “النقط فوق الحروف”، إلى أن القاضي الخازندار تلقى تهديدات لإثنائه عن السير في تلك القضية، وعندما لم تفلح محاولاتهم، اشتاط البنا غضباً وهو يصرخ “ربنا يريحنا من الخازندار وأمثاله”، وهو ما اعتبره عبدالرحمن السندي، فتوى شرعية باستحلال دمائه.
عمل البنا خلال تأسيس التنظيم على تدعيمه برجال السلطة والثروة، كنوع من التغلغل في الطبقات العليا للمجتمع، بهدف زيادة صلابة وقوة الجماعة، متجهاً إلى مسارات التجنيد الفكري، قبل التجنيد التنظيمي، للكثير من النماذج المنتمية للمؤسسات السيادية، بما يضمن تطويعها والتأثير في قراراتها الداخلية.
فتم تجنيد منير الدلة، المستشار بمجلس الدولة، وأحد أبناء الطبقة الثرية، الذي تقلد عضوية مكتب الإرشاد عام 1948، وتم استقطاب حسن العشماوي، وكيل النائب العام، وعضو لجنة وضع الدستور المصري عام 1953، وكذلك المستشار عبدالقادر عودة، أحد المعنيين بنظر قضايا “الإخوان”، الذي منح بعضهم “البراءة”، واعتبر أن القرار العسكري بحل “الإخوان” باطلاً قانوناً، واستقال من سلك القضاء، وعمل بالمحاماة، وتقلد عضوية مكتب الإرشاد.
وكذلك المستشار حسن الهضيبي، رئيس محكمة الاستئناف، الذي تولي منصب “المرشد الثاني”، للجماعة، بناء على وصية حسن البنا، الذي قال فيها: “لو حدث لي شيء واختلفتم إلى من يكون مرشداً بعدي فاذهبوا إلى حسن الهضيبي، فأنا أرشحه ليكون مرشداً للجماعة”.
في أربعينات القرن الماضي، كان المستشار أحمد كامل، والمستشار محمود عبداللطيف، من المعنيين بنظر قضية “السيارة الجيب”، التي تم ضبطها في يوم 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 1948، واتهم فيها 33 من قيادات “التنظيم الخاص”، اعترفوا بأن الأسلحة كانت معدة لأستهداف مؤسسات الدولة ورموزها.
كان من المتوقع أن تترواح الأحكام في قضية “السيارة الجيب”، بين المؤبد والإعدام، لكن جاءت الأحكام بين سنتين وثلاثة فقط لـ17 متهماً، وحصل 14 متهماً على البراءة، وتم فك اللغز بإعلان المستشار أحمد كامل، انتماءه لجماعة “الإخوان”، مصرحاً بمقولته الشهيرة “الإخوان جمعية إسلامية تهدف إلى إقامة مجتمع إسلامي مثالي يحكمه الدين”، ومعلناً استقالته من القضاء، وعمله بمهنة المحاماة، ومترافعاً ضد الحكومة في قضية مقتل حسن البنا.
كذلك صرح المستشار محمود عبداللطيف، فور الانتهاء من نظره قضية “السيارة الجيب”، قائلاً: “كنت أحاكمهم فأصبحت واحداً منهم”، وذلك وفقاً لما نشرته صحيفة “أخبار اليوم” المصرية في 12 تموز (يوليو) 1952، تحت عنوان: “المستشار الذي حاكم “الإخوان” أصبح واحداً منهم”.
من ضمن القضاة المحسوبين على تنظيم “الإخوان”، المستشار فتحي لاشين، أحد المعنيين بمتابعة ملفات التنظيم الدولي خلال انتدابه للعمل في الخارج، وعند عودته إلى القاهرة، تولى الإشراف على ملف “القضاة”، ضمن القسم “الخاص” أو قسم “الوحدات”، وتم القبض عليه عام 2009 بتهمة الانتماء لجماعة “الإخوان” خلال فترة نظام الرئيس حسني مبارك.
نظراً لخبراته باللوائح الداخلية المنظمة للمكون “الإخواني”، كان المستشار فتحي لاشين، عام 2010، من الذين حسموا الجدل القانوني حول انتخاب محمد بديع مرشداً عاماً لـ”الإخوان”، فضلاً عن دوره البارز في صياغة الإعلان الدستوري المكمل، الذي أصدره محمد مرسي في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012.
كذلك أشرف المستشار جميل بسيوني، على ملف “القضاة” داخل جماعة “الإخوان”، وعقب خروجه على المعاش ترافع عن قيادات “الإخوان” في قضية “سلسبيل” الشهيرة عام 1992، التي تورط فيها خيرت الشاطر وحسن مالك.
كما تولى الإشراف على ملف “القضاة” داخل التنظيم “الإخواني”، المستشار حسام الغرياني، رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، الذي تم ترشيحه من قبل قيادات الجماعة، لرئاسة الجمعية التأسيسية لتعديل الدستور في 2012.
وصل عدد القضاة المنتمين لجماعة “الإخوان”، خلال مرحلة ما قبل عام 2010، إلى ما يقارب 90 قاضياً، كانوا بمثابة الخلايا الكامنة داخل مؤسسة القضاء المصري، لكنهم أعلنوا عن هويتهم الفكرية خلال مرحلة وصول الجماعة إلى السلطة وسقوطهم المدوي، حيث ظهروا تحت ما سمي بـ”تيار الاستقلال”، و”قضاة من أجل مصر”، و”قضاة جبهة الضمير”.
وضع “الإخوان” شروطاً عدة لإدارة ملفات أصحاب المهن السيادية، منها أن يكون نشاط أي فرد منهم مقتصراً على أسرته التنظيمية، ولم يسمح لأي منهم بحضور الكتائب أو المعسكر، أو اللقاءات العامة والمفتوحة، حتى لا يلفت الانتباه اليهم، وفي السنوات الأخيرة لنظام الرئيس مبارك، أصدر مكتب الإرشاد قراراً بإلغاء كل اللقاءات المرتبطة بقسم “الوحدات”.
في ظل تصدر “الإخوان” للمشهد السياسي المصري، حصل “قضاة الإخوان” والمتحالفين معهم، على مناصب عليا بالدولة، فتم تعيين المستشار محمود مكي، نائباً لرئيس الجمهورية، وتعيين شقيقه أحمد مكي، وزيراً للعدل، وخلفه المستشار أحمد سليمان، وأصبح المستشار محمود الخضيري رئيساً للجنة التشريعية بمجلس الشعب المنحل، وحسام الغرياني رئيساً للجمعية التأسيسية لوضع الدستور، ثم رئيساً للمجلس القومي لحقوق الإنسان.
في محاولة إحكام السيطرة على المؤسسة القضائية، سعت جماعة “الإخوان”، إلى سن قانون جديد للسلطة القضائية، ينص على خفض سن التقاعد من 70 إلى 60 عاماً، ما يؤدي إلى عزل نحو 3500 قاضٍ، بهدف استبدالهم بعناصر شبابية “إخوانية” تدين بالولاء للجماعة ومشروعها.
* كاتب مصري وباحث في شؤون الجماعات الأصولية
نقلاً عن النهار العربي