فارس خشان
عندما يصل الرئيس الأميركي جو بايدن الى جدّة ستكون العيون شاخصة الى وليّ العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان، بصفته الرجل الذي دفع برئيس أقوى دولة في العالم إلى “ابتلاع” مواقفه وكلماته وشعاراته العدائية والتهديدية.
حتى الأمس القريب، كان كثيرون يُراهنون على عدائية بايدن، لكسر “السيف” السعودي، إنطلاقاً من اعتقاد بدا راسخاً لدى هؤلاء بأنّ استقرار “المملكة العربية السعودية هو هبة الولايات المتّحدة الأميركية”، وبالتالي فإنّ كلّ حاكم سعودي، مهما تقدّمت به الرتب والمراتب، إن لم ينل المباركة الأميركية، فهو حتماً…زائل!
الأمير محمّد بن سلمان نجح، ببراعة، في تكذيب هذه “السردية” التي ساهم أصدقاء السعودية قبل خصومها وأعدائها في صناعتها، فهو واجه العاصفة الأميركية التي هبّت ضدّه بثبات وهدوء وصبر وحنكة، كما لو كانت واحدة من تلك العواصف الرملية التي اعتادت بلاده عليها.
وحين أتاحت له مجلّة “ذي أتلانتيك” الأميركية في المقابلة التي أجرتها معه، في بداية آذار/مارس الماضي فرصة خطب ودّ بايدن، رفض ذلك، إذ أجاب تعليقاً على سؤال عمّا إذا كان الرئيس الأمريكي يسيء فهم أمور تخصه: “ببساطة لا أهتم”!
وبدل التودّد، راح وليّ العهد السعودي يعدّد ما يمكن أن تخسره الولايات المتّحدة الأميركية، إن ثابرت على السياسة التي أقرّتها إدارة بايدن، تجاه بلاده، وهي الأمور التي عاد الرئيس الأميركي ووجد نفسه يعتمدها في مقالة بتوقيعه نشرتها صحيفة “واشنطن بوست”، يوم الأحد الماضي، تحت عنوان:” لماذا سأذهب الى السعودية؟”.
لم يواجه الأمير محمد بن سلمان عدائية إدارة بايدن باللجوء الى عدائية مماثلة، بل بالإعتماد على “معادلة المصالح المتبادلة”.
ولم يترك بلاده، في هذه المرحلة المضطربة، تترنّح خوفاً أو “مرجلة”، بل عمد الى تقويتها مالياً واقتصادياً، من جهة أولى وتصليب موقعها الإقليمي، من جهة ثانية وتحديد دورها في التوازنات الدولية الناشئة، من جهة ثالثة، والثبات على مبادئها في النظرة الى “الجمهورية الإسلامية في إيران” وإلى أذرعها في المنطقة، من جهة رابعة، وإلى تحديد شروطه الواضحة لإمكان الدخول في “حلف استراتيجي” مع إسرائيل، من جهة خامسة.
وحين بدأت آثار الغزو الروسي لأوكرانيا تهزّ اقتصاديات العالم وتحالفاته، كانت المملكة العربية السعودية “محصّنة” على كلّ المستويات، وتالياً أصبح خطب ودّها ليس في صلب المتغيّرات الدولية الإستراتيجية، فحسب بل في صلب السياسات الداخلية للدول الديموقراطية تتقدّمها الولايات المتّحدة الأميركية، أيضاَ على اعتبار أنّ مساهماتها في موضوع أسعار النفط، يمكن أن تقول لهذا الفريق “كُن فيكون” او “زل فيزول”.
وهذا يعني أنّ “السردية” التي كانت تنال من مكانة المملكة العربية السعودية إنقلبت لمصلحتها، وليس أدلّ على ذلك من كلّ ما يحكى عن إمكان أن يُهزم “حزب بايدن” هزيمة نكراء، إذا ما بقيت أمور المستهلك الأميركي على حالتها المزرية الراهنة، في انتخابات الكونغرس النصفية، المقرّرة في تشرين الثاني/ نوفمبر.
وعليه، فإنّ بايدن لن يأتي الى السعودية، بصفته “رسول سلام”، بل بصفته “صاحب غرض”.
وهدف الرئيس الأميركي واضح: إستمالة المملكة العربية السعودية الى أن تكون حليفاً لواشنطن في عصر التنافس الإستراتيجي الجديد الذي أعلنه، بصراحة، “حلف شمال الأطلسي” في قمته الأخيرة، في مدريد.
هل سوف تُحقّق الرياض ومعها حلفاؤها الخليجيون والعرب هذا المطلب الأميركي الطموح؟
قد يكون من المبكر الإجابة عن هذا السؤال الإستراتيجي الذي من شأنه تغيير المعادلات الكبرى في الشرق الأوسط، لكن، في حال الركون الى النهج الذي تعتمده قيادة المملكة العربية السعودية، فإنّ الأمور معقودة على سياسة “هاتِ وطالب”.
وعليه، ثمّة أسئلة لا بدّ من أن تجيب عنها إدارة بايدن، بوضوح، قبل أن تحصل على ما تمني النفس به:
أولاً، ماذا يُمكن لواشنطن أن تُقدّم للرياض وحلفائها على مستوى محاربة أذرع إيران في المنطقة، بدءاً باليمن، مروراً بلبنان وسوريا والعراق، وصولاً إلى غزّة؟
ثانياً، ما هو المدى الذي يُمكن أن تذهب إليه الولايات المتّحدة الأميركية، في موضوع الملف النووي الإيراني؟ وأيّ موقع سوف تحتلّه، في هذا السياق، المخاطر الناجمة عن نشر صواريخها الباليستية وطائراتها الآلية، والدور المستقبلي ل”الحرس الثوري الإيراني” عموماً ول”فيلق القدس” تحديداً؟
ثالثاً، إنّ التعاون الأمني الإستراتيجي ممكن مع إسرائيل، وخصوصاً لجهة اعتماد نظام “دفاع جوّي منسّق”، ولكنّ مسألة تطبيع العلاقات السعودية-الإسرائيلية، وفق منهجية “إتفاقيات إبراهيم” تحتاج الى جهد كبير لا بدّ من أن يُثمر تنازلات جدّية على جبهة الحقوق الفلسطينية، فماذا يمكن، والحالة هذه، أن تقدّم واشنطن على هذا المستوى، خصوصاً بعدما انتهت حجّة إسرائيل بأنّ العرب يريدون اقتلاعها من جذورها؟
رابعاً، كيف يمكن فهم التزام الولايات المتّحدة الأميركية بالشرق الأوسط، في حين كانت قد بيّنت أنّها، في اللحظة التي تناسبها، تنقل اهتمامها الكامل الى آسيا، في إطار صراعها مع الصين، الأمر الذي يمنع الدول المحورية في الشرق الأوسط من “وضع كلّ بيضاتها في السلّة الأميركية”؟
بطبيعة الحال، إنّ الأجوبة الأميركية عن هذه الأسئلة المحورية لن يوفّرها الرئيس جو بايدن، بالوضوح المطلوب، في اجتماعات جدّة وقمّتها الخليجية-العربية، ولكنّ كثيرين ممّن يتابعون هذه الملفات يعتقدون بتوافر مقدّمات مهمة للأجوبة الأميركية المطلوبة.
وهذه المقدّمات قد تُترجم بقرار بتراجع واشنطن عن قرار حظر بيع أسلحة هجومية للسعودية، وبتنسيق الردود على أوّل اختبار للسياسة الأميركية الجديدة يُمكن أن تُقدم عليه إيران، سواء عبر “حوثيي” اليمن أو عبر “حزب الله” لبنان أو عبر “الحرس الثوري الإيراني، مباشرة.
وفي حال نجحت زيارة بايدن للسعودية في تفعيل معادلة “المصالح المتبادلة”، فإنّ “الشرق الأوسط الجديد”، سوف ينتقل إلى مرحلة متقدّمة.
من دون شك، إنّ زيارة بايدن للملكة العربية السعودية والآمال التي تعقدها عليها الإدارة الأميركية، هي انتصار لنوع مفيد من “الممانعة” أرساه ولي العهد السعودي، في وقت كانت المنطقة سابقاً قد اعتادت على ممانعة “الصمود والتصدّي” التي لم تجلب للمنطقة ودولها سوى “السقوط والصدأ”.
ولكن، على الرغم من “هزيمة” الرئيس جو بايدن المعنوية أمام الأمير محمد بن سلمان، إلّا أنّها تُقدّم لقادة العالم الثالث درساً كبيراً، حيث تسقط اعتبارات “الأنا” عندما تصطدم بمصلحة الدولة العليا.
نقلاً عن النهار العربي