تطمح الإدارة الأميركية منذ عقود لبناء درع للدفاع الجوي في الشرق الأوسط يربط الرادارات والأقمار الصناعية وأجهزة الاستشعار الأخرى المتوفرة لدى بلدان المنطقة
طارق فهمي كاتب وأكاديمي
تتسارع الحركة الأميركية والعربية والإسرائيلية في الوقت الراهن للعمل في اتجاهات عدة للتنفيذ والتخطيط للترتيبات الأمنية والاستراتيجية الجديدة في الإقليم انطلاقاً من مقاربة نفعية ومصلحية كشفت عنها مرحلة ما بعد عقد قمة النقب، وعقد سلسلة من الاتصالات التي أعلن عن بعضها، وهو ما يؤكد أن الدول العربية باتت في دور المتلقي لما هو مطروح وسيكون له مردوده في الفترة المقبلة، بخاصة في مجال الأمن الاستراتيجي والسياسي معاً، وقد تزامن ذلك مع استضافة البحرين اجتماعاً لـمنتدى النقب بمشاركة دبلوماسيين كبار من الولايات المتحدة وإسرائيل ومسؤولين من وزارات الخارجية في دولة الإمارات والبحرين والمغرب ومصر، في إطار نشاط دبلوماسي متزايد قبيل زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المنطقة في الـ 15 من يوليو (تموز) الجاري.
إسرائيل تتحرك
في ظل استمرار المشهد الأمني في المنطقة على ما هو عليه وعدم توقيع الاتفاق النووي والإعلان عن خطوات استئناف التفاوض مجدداً بين الولايات المتحدة وإيران بعد الجولة الاستكشافية في قطر، التي رحلت إلى ما بعد جولة الرئيس جو بايدن في المنطقة، فإن إسرائيل ستواصل بالفعل مخططها للحصول على دعم أميركي ورسائل وتعهدات مكتوبة قبل التوصل رسمياً إلى اتفاق بين واشنطن وطهران قد يكون مؤجلاً إلى ما بعد إجراء انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، بخاصة أن شعبية الرئيس الأميركي في أسوأ أحوالها، وسيواجه الرئيس اختباراً عسيراً ما بين العمل على تماسك “الناتو” وبين المهام الكبرى للسياسة الأميركية في مناطق مختلفة من بينها الشرق الأوسط، وهو ما يجب الانتباه إليه عربياً قبل حضور الرئيس جو بايدن إلى السعودية لطرح مقاربة أميركية حقيقية للشراكة الأميركية العربية.
هناك تشكك من أن تعجل السياسة الأميركية (وهو أمر مطروح) بالبدء في تنفيذ الإطار الأمني والشرق أوسطي دون انتظار لتبين المواقف والاتجاهات العربية التي قبلت أو تحفظت على ما سيتم طرحه سياسياً وأمنياً، الأمر الذي سيؤدي إلى مزيد من انقسام الصف العربي، وسيذهب بالتنسيق العربي- العربي الراهن إلى مساحات جديدة من التباينات والتجاذبات ما بين مؤيد ومعارض ومتحفظ.
ترتيبات محددة
سيكون البدء في ترتيب الإجراءات الأمنية وإقرار ترتيبات جديدة أمنياً واستراتيجياً محل اهتمام بخاصة مع تشكيل بنية الاتصالات العربية الإقليمية في لقاء المنامة أخيراً، الذي تركز في لجان عمل في ملفات متخصصة، وهو ما يشير إلى أن الولايات المتحدة وإسرائيل تعملان في اتجاه واحد ومن منظور محدد لترتيب الأجواء الاستراتيجية في الفترة المقبلة، سواء جرى الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن لاحقاً أو لم يتم، وهو ما يؤكد على إطار التفاوض السياسي والأمني والاستراتيجي لشكل المنطقة وتحالفاتها الجديدة، ويتجاوز ما يتردد في إشكالية التطبيع التي تتم في الوقت الراهن، حيث ستكون الأولوية للأمن وليس للسياسة أو الاقتصاد.
إن مقاربات السلام الاقتصادي التي طرحت في ظل إدارة الرئيس ترمب لن يكون لها دور حقيقي أو مسار يمكن الاتكاء عليه في الوقت الراهن، وسيكون في مقابل ذلك الأمن الذي سيكون العنوان الأبرز والمباشر لمسار ما يمكن أن يمضي إليه الجانبان العربي والإسرائيلي، وبصرف النظر عن مخطط الإدارة الأميركية للعمل معاً في الإقليم بخاصة مع إسرائيل مع التحفظ على أن دولاً مهمة في هذا الإطار لديها اعتراضات وتحفظات على ما يجري ومنها الأردن، وعلى الرغم من علاقاتها القوية بالولايات المتحدة والتحالف الاستراتيجي الكبير بينهما واستمرار الولايات المتحدة في بناء قاعدة عسكرية ضخمة على الأراضي الأردنية، وعلى الرغم من تصريحات الملك عبدالله الثاني المؤيدة التي أكد فيها أنه من أوائل المؤيدين لإنشاء “نسخة شرق أوسطية من حلف الناتو”، وأن الأمر ممكن مع الدول التي تتقاسم طريقة التفكير نفسها.
إطار استراتيجي
ما تطرحه الترتيبات الأمنية الجديدة في الإقليم مرتبطة بمخطط إسرائيلي يركز على الاستثمار في ما يجري، وفي ظل استمرار حالة السيولة السياسية والاستراتيجية الجارية في المنطقة التي لها ثوابتها على الرغم من مناخ التغير الجاري، وهو ما يؤكد أن معادلات سياسية واستراتيجية تُشكل في المنطقة، وأنها ستتم بصرف النظر عما يمكن أن يطور اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية أو يدفع دولاً أخرى للحاق بركب التعاون الإقليمي في الشرق الأوسط، بخاصة أن إسرائيل تريد أن ترسم الترتيبات الأمنية في سياق مصالح مباشرة وعدم التركيز على دولة واحدة أو منطقة محددة.
في إطار ما يجري من ترتيبات تمت صياغة إطار عمل لمنتدى النقب حددت فيه أهداف المنتدى وأساليب عمل هيكلة المكون من أربعة أجزاء، الاجتماع الوزاري لوزراء الخارجية، والرئاسة، واللجنة التنسيقية، ومجموعات العمل. بما يُسهم في دفع العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية نحو حل تفاوضي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وكجزء من الجهود المبذولة لتحقيق السلام العادل والدائم والشامل مع تعيين رؤساء لكل من مجموعات العمل الست التي أطلقها الوزراء في قمة النقب.
ومن المقرر أن تجتمع مجموعات العمل بانتظام على مدار العام لدفع المبادرات التي تشجع التكامل الإقليمي والتعاون والتنمية لصالح شعوب المنطقة عبر مجموعة متنوعة من المجالات، بما في ذلك المبادرات التي تعزز الاقتصاد الفلسطيني وتحسن الأوضاع المعيشية، وهو أشبه بما جرى من تحولات حقيقية في الطرح الإسرائيلي لمسار السلام الاقتصادي الذي تريد تنفيذه في مواجهة السلام السياسي المتعثر منذ سنوات طويلة، أي التركيز على إنجاز السلام الاقتصادية كإحدى المقاربات المهمة في المخطط الأميركي.
مخطط إسرائيلي
اللافت أن المخطط الإسرائيلي الجاري قد حجز موقعاً متقدماً في إدارة المشهد الأمني والاستراتيجي مع الانتقال من الحسابات الضيقة إلى حسابات أكبر، مما يؤكد أن إسرائيل لن تتنازل عما حققته من مكاسب حقيقية في إطار محاربة الإرهاب والتطرف ومواجهة التنظيمات الإرهابية وفق رؤيتها، ومن ثم فإن دورها مهم في إدارة الأمن الإقليمي انطلاقاً من الممرات والمضايق العربية ووصولاً إلى البحر الأحمر، بخاصة أن إسرائيل تدرك أن وجودها في قلب التفاعلات الدولية الراهنة سيحجز لها مكاناً كبيراً في ما يجري من تحولات حقيقية ومباشرة في بنية المشهد السياسي في الإقليم.
تلتقي الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة وإسرائيل في موقع محدد عبر القوة المركزية الأميركية، ومن ثم فإن هناك مهام واحدة وأهدافاً استراتيجية قصيرة وطويلة المدى سيعمل عليها الجانبان، وهو ما يجب النظر إليه بعمق في ظل مقاربة المصالح الواحدة التي ترسم معالمها الولايات المتحدة في الوقت الراهن.
ومن ثم فإن الهدف بات واحداً والمهام الكبرى التي سيتم العمل عليها في إطار مصالح كل طرف ستكون حاكمة لما يجري من أهداف، وهو ما يجب الانتباه إليه في ظل عقائد قتالية مختلفة، ومهام استراتيجية قد تتباين بين كل الأطراف، وغير كاف أن ترتب الولايات المتحدة أنساق عسكرية واستراتيجية واحدة، وفي توقيتات قريبة مع التقدير لما يقوم به حلفاء الولايات المتحدة في الإقليم، الذين يدركون بالفعل أن ثمن التحالف مع الإدارة الأميركية الحالية مكلف في ظل رهانات متعلقة بما يمكن أن يطرح عربياً، استناداً إلى أن هذه الإدارة قد تفشل في الاستمرار لولاية جديدة.
رهانات محتملة
ومن ثم فإن الرهانات الأولية على استمرار الرئيس الأميركي الحالي غير صحيحة، وإن استمرت الإدارة الأميركية في موقعها وتغير شخص الرئيس جو بايدن، والمسألة ستكون مرتبطة بتحولات الأمن والاستراتيجية في الفترة المقبلة، ومدى قبول بعض الدول العربية بما يجري والانضواء تحت مظلة واحدة مع إسرائيل وهو ما قد يؤثر في مسارات ما يجري في ملفات مهمة منها الملف الفلسطيني، وأمن الخليج، والتطورات الاستراتيجية في شرق المتوسط، والاستقرار في العراق وسوريا ولبنان، وهو ما يمتد إلى مناطق أخرى من الإقليم.
يمثل الوضع الراهن في إسرائيل وحالة عدم استقرار الأوضاع هاجساً للولايات المتحدة ولبعض الدول العربية التي قطعت مسافات في علاقاتها مع إسرائيل، وهو ما قد يؤخر مساحات التقارب الاستراتيجي، وتنفيذ ما يتم الاتفاق بشأنه وهو ما تدركه الولايات المتحدة، وسيدفع الولايات المتحدة للعمل معاً في إطار تصويب المسارات وتصحيح الرؤية، وضبط اتجاهات التحرك بصرف النظر عن الوضع في إسرائيل من عدم استقرار حقيقي في الشكل، لكن في المضمون فإن القوي الحزبية أغلبية ومعارضة متفقة في مسارات التعامل مع الأوضاع الأمنية الجديدة في الإقليم، والانطلاق من واقعها إلى مرحلة جديدة من تنمية العلاقات مع الدول الرئيسة مثل مصر، وهو ما يفسر الدخول في مساحات كبيرة من التعاون المعلن وإبرام اتفاقيات نقل الغاز لأوروبا ومفاوضات توسيع الكويز، والانخراط في الاتصالات السياسية المباشرة، وهو ما سيؤدي لمزيد من التقارب مع دول أخرى في الإقليم، وسيشجع على الانخراط في مسارات التعاون الإقليمي، الذي كان متوقفاً في مراحل معينة لاعتبارات تتعلق بالتطورات الفلسطينية الإسرائيلية، والمخاوف من ارتداداتها المباشرة على ما يجري.
لم يعد التحرك الإقليمي الراهن مرتبطاً بأي مواقف مسؤولة تجاه الداخل الفلسطيني المرتبك والمتردد، الذي بات يدور في دائرة محدودة من الخيارات على الرغم من أن الولايات المتحدة لاعتبارات متعلقة بالتطورات الفلسطينية الداخلية وإعادة طرح قضية الخلافة الفلسطينية بدأت في طرح أطروحات تتجاوز مطالب الفلسطينيين في فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن والقنصلية الأميركية في شرق القدس، والإفراج عن مجمل برنامج المساعدات الأميركية لدعم السلطة الفلسطينية والتأسي بالموقف الأوروبي الذي قدم حزمة جديدة أخيراً من المساعدات الأوروبية العاجلة للسلطة الفلسطينية.
الخلاصات الأخيرة
إذاً هناك أفكار مطروحة من مختلف الأطراف حول الدفع بالتعاون البيني في مجالات الأمن لمواجهة التهديدات الإيرانية، تحت عنوان هندسة الأمن الإقليمي التي تهدف إلى بلورة حلول رادعة مقابل التهديدات في الجو والبر والبحر.
وتطمح الإدارة الأميركية منذ عقود في بناء درع للدفاع الجوي في الشرق الأوسط يربط الرادارات والأقمار الصناعية وأجهزة الاستشعار الأخرى المتوفرة لدى بلدان المنطقة. وتؤدي الولايات المتحدة حالياً دوراً مركزياً في تعقب التهديدات الجوية في المنطقة من قاعدة العديد الجوية في قطر، حيث يوجد مركزها للقيادة الجوية في الشرق الأوسط. وثمة ضباط ارتباط من دول عربية موجودون في القاعدة.
التحالفات الأمنية والدفاعية في الشرق الأوسط انتهت جميعها بالفشل وهذا دون وجود إسرائيل ضمن الأعضاء. من حلف بغداد إلى مبادرات الدفاع العربي المشترك، وحتى مبادرتي أوباما وترمب في ما عرف بـالتحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط بين 6+2 دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن وتراجعت عنه مصر ولم تتحمس له الدول الأخرى لأنه يستهدف إيران ومهمته غير واضحة.
لم تكن خطوة نقل إسرائيل إلى المنطقة الوسطى للقوات الأميركية بلا هدف، إنما كانت لتحقيق التكامل مع ما يجري اليوم من ترتيبات أمنية عربية إقليمية. باختصار، الهدف هو إنشاء الحلف الواسع والكبير يقوم على مبدأ الدعم عند الطلب، حيث تحقق هذه الصيغة للولايات المتحدة مزيداً من الاعتماد الذاتي لحلفائها في المنطقة ما ينعكس على تحملها الأعباء الرئيسة، ويتيح لها وقتاً للانخراط بصورة جدية ومباشرة في بحر الصين وعلى حدود روسيا والدول المتحالفة معها.
نقلاً عن أندبندنت عربية