خالد اليماني
في العدد الأخير من مجلة “سبكتيتر” الصادرة في لندن، أكد السياسي والدبلوماسي الأمريكي المخضرم هنري كيسنجر في حديث مع المؤرخ والإعلامي الإنجليزي أندرو روبيرتس أنه كان، ولا يزال، متشككاً إزاء الغاية من وراء الاتفاق النووي التي توصلت إليه إدارة الرئيس باراك أوباما والدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، إضافة إلى ألمانيا والاتحاد الأوروبي مع إيران في عام 2015، والمعروف بـ”خطة العمل الشاملة”. وأضاف كيسنجر الذي بلغ في الأيام الماضية التاسعة والتسعين من عمره، أن مثل هذا الاتفاق سيكون من الصعب للغاية التحقق من تنفيذه والركون لصدقية إيران، نظراً إلى طبيعة النظام. ومع إقراره بأن الجهود المتواصلة خلال السنوات الماضية خلقت نمطاً كان من الممكن أن يبطئ سعي إيران الحثيث للحصول على السلاح النووي، إلا أنه يؤكد أن الوضع الآن أصبح أكثر تعقيداً، فسعي إيران الحثيث للضرب بعرض الحائط التزامها القديم وتسريع مشروعها النووي للأغراض العسكرية سيدفع، بنظر كيسنجر، دول المنطقة وعلى رأسها السعودية ومصر وإسرائيل إلى اتخاذ ردود فعل قد تجعل الوضع أكثر تفجراً.
ويستغرب كثير من المتابعين الجهود المتواصلة التي يبذلها الوسيط الأوروبي لإحياء الاتفاق الذي دخل حال الموت السريري، وتثار الأسئلة حول نوعية التوافقات التي جرت وتجرى من تحت الطاولة، والتي لا يعرفها العالم، وحول جدوى خطب ود نظام مارق بدلاً من ردعه. ويقول السيد كيسنجر إنه من الخطورة العودة إلى الاتفاق الذي لم يلب الهدف منه، من حيث إنه في الأساس، لم يكن كافياً، بل إن الخطورة تكمن بنظر المراقبين في سعى المفاوض الغربي إلى إدخال تعديلات ترضي رغبة وتعطش ملالي إيران للتوسع ونشر الفوضى في المنطقة.
وما أن أسدل الستار عن مساعي اللحظات الأخيرة لإنقاذ الاتفاق النووي والذي تفضلت الدوحة باستضافته، وأعلن في واشنطن عن فشلها، سارع تجار البازار في طهران بعرض تجارتهم الرائجة من خلال ممارسة سياسة النفس الطويل، لتأكيد أنهم منفتحون على جولة قادمة مع المفاوض الأمريكي في الدوحة. وفي الواقع فقد نجح المفاوض الإيراني في استغلال مفاوضات السقف المفتوح التي تورطت فيها الدول الكبرى، والتي كانت مخرجاتها وما زالت في صالحه، ومنحت طهران فرصةً تلو الأخرى للتلاعب بالدول الغربية وأميركا على وجه التحديد. وما هي إلا ساعات، حتى خرجت بعض وسائل الإعلام الأميركية بتصريحات نسبت إلى مصدر مخول في الإدارة، مفادها أن المفاوضات في الدوحة ستستأنف فور انتهاء الرئيس بايدن من زيارة السعودية.
السقف المفتوح!
وتشكل مفاوضات “السقف المفتوح” الورقة الرابحة لدى المفاوض الإيراني، ففي الوقت الذي يراهن فيه الغرب في مفاوضاته مع طهران على الضغوط التي تمارسها العقوبات، يرجح المتابعون لنظام العقوبات أنه مثل الغربال الذي ثبت عدم جدواه، حيث تقوم دول كثيرة في العالم بما فيها دول مهمة في منطقتنا، بفتح قنوات خلفية تمكن إيران من الالتفاف على العقوبات، وجاء الغزو الروسي لأوكرانيا ليفتح نافذة واسعة لشرور طهران.
في المقابل، تفاوض إيران من موقع القوة وترفض العودة إلى اتفاق 2015 من دون تنازلات إضافية، وهي في الواقع رمت خلف ظهرها الالتزامات التي وردت فيه، بخاصة مع استحالة الامتثال لقواعد التخصيب التي لا تتجاوز الـ5 في المئة، فيما توصلت أجهزة طردها المركزي المنتشرة في مواقع سرية وعلنية إلى نسبة تخصيب تجاوزت الـ60 في المئة.
وتراهن إيران عبر إبقاء خطوط الاتصال مفتوحة مع أمريكا، والتلميح باستعدادها للاتفاق لاحقاً، على تقويض التقارب الاستراتيجي الأميركي مع الحلفاء في المنطقة، وعلى رأسهم السعودية، ومن هنا يأتي التلميح من اللوبي الإيراني في واشنطن إلى أن المفاوضات النووية ستتواصل في الدوحة بعد الزيارة التي سيقوم بها الرئيس بايدن إلى السعودية خلال الأيام القليلة المقبلة.
معلوم أن الرئيس بايدن سيبحث مع القيادة السعودية والقيادات الخليجية والعربية، الملف الإيراني، والبدائل السياسية لما بعد فشل الاتفاق مع إيران. ومن هنا، من المتوقع أن تشهد الأيام القليلة القادمة حركة نشطة لأذرع إيران الإرهابية في المنطقة وتحركات استفزازية لـ”الحرس الثوري” في مياه الخليج، وزيادة وجود القطع العسكرية للبحرية الإيرانية في منطقة جنوب البحر الأحمر، والتي يعد وجودها انتهاكاً صريحاً، فهي لا ترتبط بأي اتفاقات عسكرية مع دول المنطقة ولا تستخدم الممر المائي الدولي للعبور إلى مناطق أخرى خارج البحر الأحمر.
وتتقدم إيران تحت سياسة السقف المفتوح في خطواتها لصنع قنبلتها النووية، والتي لن تقف دول المنطقة مكتوفة الأيدي حيالها. وتدرك إيران أنها ستحقق نصراً مؤزراً، لعدم جدية واشنطن في تفعيل خيارات الردع الكثيرة المتوفرة لديها، كما تدرك أن عامل الوقت تحت سياسية السقف المفتوح يصب في صالحها، وعينها على الصراع الروسي الغربي، فيما تتقدم للانضمام إلى مجموعة “البريكس” للاستقواء بالمحور الذي تقوده روسيا والصين.
البدائل في واشنطن
لطالما كانت البدائل السياسية التي تقدمها مراكز الدراسات الأمريكية للإدارة تستبعد خيار الردع، وتفضل ممارسة الضغوط السياسية من خلال العقوبات التي ثبت عدم جدواها، فمثلاً في مقاله في مجلة الشؤون الخارجية يرى كريم ساجدبور، الأميركي ذي الأصول الإيرانية، وكبير الباحثين في مركز كارنيغي للسلام الدولي، أن الحل يكمن في احتواء طهران. ويؤكد الكاتب أن هزيمة النظام في طهران لن تكون على يد أي قوى خارجية، بل وحده الشعب الإيراني من سيقوم بذلك فقد تجرع ثمناً باهظاً جراء سياسات الملالي التي أفقرته.
ولكن لشيخ السياسة الدولية، هنري كيسنجر رأي مغاير، إذ رأى في لقائه مع مجلة سبكتيتر البريطانية، أنه لا يوجد بديل حقيقي إلا بالقضاء على القوة النووية لإيران، وليس هناك من سبيل لتحقيق السلام في منطقة الشرق الأوسط مع وجود أسلحة نووية في إيران، مؤكداً قناعته الشخصية أنه قبل أن تمتلك إيران السلاح النووي ستقوم إسرائيل بعمل استباقي، لأنها حسب قوله، لن تقبل بمجرد احتمال تعرضها لضربة نووية واحدة من طهران.
وبانتظار نتائج مباحثات الرئيس بايدن في المنطقة الأسبوع المقبل، في ما يتصل بالنشاطات المزعزعة للأمن والاستقرار الإقليمي، ومساعي إيران لامتلاك أسلحة نووية، وبانتظار ما ستتمخض عنه من بحث في البدائل السياسية للتحرك معاً لكبح جماح التطلعات التدميرية الإيرانية.
وفي حال فشلت مقاربة الردع، ستجد دول المنطقة نفسها على موعد مع سباق جديد للتسلح النووي. وستكون واشنطن حينها مضطرة لبيع الأسلحة الهجومية المتطورة لحلفائها في المنطقة وتطوير الصناعات العسكرية الدفاعية المحلية لوقف التوسع الصيني والروسي. إنه تحدّي القيادة في عالم متغير.
عن “اندبندنت عربية”