أمال شحادة
على غير عادتها في التعامل مع جرائم سابقة كُشف عنها بإنكارها أو رفض التعامل معها، اتخذت الحكومة الإسرائيلية برئاسة يائير لبيد قراراً يشكل سابقة، تعهد بموجبه بالتحقيق في ما كشفه الأرشيف الإسرائيلي عن حرق ثمانين جندياً مصرياً خلال معارك عام 67 ودفنهم في قبر جماعي في منطقة دير اللطرون، شمال القدس.
وجاء قرار لبيد خلال محادثة أجراها مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عشية زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المنطقة، إذ طرح السيسي أمام لبيد ما كشفه الأرشيف الإسرائيلي في شأن جريمة حرق 80 جندياً مصرياً خلال معارك عام 1967، ثم دفنهم في قبر جماعي بكيبوتس نحشون في منطقة دير اللطرون شمال القدس (الكيبوتس هو تجمع سكني تعاوني يضم جماعة من المزارعين أو العمال اليهود الذين يعيشـون ويعملون معاً، ويبلغ عـددهم ما بين 40 و1500 عضو).
كما تعهد وزير الأمن بيني غانتس لرئيس الاستخبارات المصرية عباس كامل بالعثور على مكان الدفن. وكتب غانتس على حسابه في “تويتر” أنه أجرى محادثة مع كامل وناقشا ما كشفه الأرشيف عن الجنود المصريين ووعده بأن يعمل جهاز الأمن الإسرائيلي على كشف مكان القبر الجماعي والتعامل مع القضية بمنتهى الحساسية.
تحقيق شفاف
منذ أعوام، بدأت الرقابة العسكرية في تل أبيب السماح بالاطلاع على الأرشيف الخاص بالقضايا العسكرية والأمنية، التي أدرجت طوال الوقت ضمن “ملفات سرية”، وكُشف عن تفاصيل جرائم عدة قُتل فيها العشرات، لكن المسؤولين في إسرائيل رفضوا التعامل مع أي من الملفات واعتبروا ذلك أرشيفاً من الحروب.
في محادثته مع السيسي بهدف التفاهم حول مختلف القضايا المشتركة في المنطقة وبعضها ذات صلة بزيارة بايدن، لم يتوقع لبيد طرح جريمة حرق 80 جندياً مصرياً من قبل الرئيس المصري. وكما رأت جهات سياسية إسرائيلية، فإن لبيد وجد نفسه مضطراً إلى التجاوب مع مطلبه بالتحقيق في القضية وتعهد بفحصها بعمق وإطلاع الجهات المصرية المعنية بذلك.
لكن التفاصيل التي أوردها الأرشيف بالنسبة إلى الإسرائيليين، لا تتيح أية إمكانية للتحقيق، وما أقيم فوق القبر الجماعي لا يتيح الوصول إليه. والوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها الوصول إلى مكان القبر الجماعي هو العودة إلى أرشيف صور الجو في شهر يونيو (حزيران) 67 والموجود في مركز خرائط إسرائيل.
بحسب بعض الشهادات، فإن 18 يونيو هو التاريخ الذي شهد دفن الجنود، وعليه يمكن الاعتماد على صور الجو من ذلك اليوم لمعرفة المكان.
“إسرائيل الصغرى” فوق القبر
وفق ما كشف عنه الأرشيف الإسرائيلي، أقيم فوق القبر الجماعي للجنود المصريين كرم لوز، وعام 2000 نفذ واحد من أهم المشاريع السياحية في المنطقة “إسرائيل الصغرى”.
كان الكشف الأول عن هذه الجريمة من خلال صحيفة ناطقة باسم كيبوتس نحشون واسمها “على الجرف”، كانت وزعت بعد حرب عام 67، لكن المسؤولين في الكيبوتس قرروا عدم نقاش مواضيع متعلقة بالتصرف بالأراضي التي أقيم عليها، وكان أبرز ما أثير في حينه ما يمكن وصفه بـ”قبر جماعي كبير” اكتُشف حينما بدأ أعضاء الكيبوتس بفلاحة الأرض.
وقتها، فرضت الرقابة العسكرية أمراً بمنع أي نشر عن هذا القبر، وامتنع أعضاء الكيبوتس عن الحديث عنه، غير أن العضو دان مئير توجه إلى وسائل الإعلام في التسعينيات للنشر عن هذا القبر وتفاصيله، لكن الرقابة العسكرية رفضت.
وفي حينه، صرح مئير للإعلام بأن ما يعرفه من معلومات تثير القشعريرة وأن “تفاصيل الجريمة تقض مضاجعه ولا تترك له أي مجال للراحة”. وبعد عامين من حديثه المقتضب، توفي مئير وعادت الجريمة ضد هؤلاء الجنود إلى طي الكتمان، إلى أن سُمح بالكشف عنها أخيراً.
القنابل الفوسفورية
بحسب ما ورد في ملف سجلات الحرب في الأرشيف الإسرائيلي “معارك 67- اللطرون”، كانت هناك قوة صغيرة من الفيلق الأردني في جيب اللطرون، شمال القدس، وانضمت إليها قوة “كوماندوس” مصرية من الكتيبة 33 من وحدة النخبة وكانت تضم نحو 100 جندي.
خططت القوة المصرية للسيطرة على قواعد سلاح الجو في اللد وتل نوف والرملة، بينما تمركزت أمامها قوات اللواء القطري 4 التابع للجيش الإسرائيلي وقليل من قوة الناحل وقوة دفاع من المستوطنات اليهودية. وفي اليوم الأول للحرب في 5 يونيو، بحسب الأرشيف، أطلق المصريون قذائف الهاون بهذا الاتجاه. وفي اليوم الثاني، أمر قائد اللواء 4 موشيه يتباك باحتلال الجيب. وخلال ساعتين، خضعت شرطة اللطرون، وبعد بضع ساعات كان سهل أيالون في يد الجيش الإسرائيلي.
كان يقود المنطقة آنذاك المقدم (احتياط) زئيف بلوخ، وهو من مؤسسي كيبوتس نحشون. وبحسب ما كتب في مذكراته، واعتُمد عليه في الأرشيف “كان جنود وحدة الكوماندوس المصرية تائهين في المنطقة ومن دون خرائط. وفي السادس من يونيو، اليوم الثاني للحرب، حدثت المواجهة الأولى معهم، فاحتموا في حقول الشوك التي تحيط بالكيبوتس وكانوا نحو 80 جندياً، ماتوا جراء حريق في المكان بعد أن طوقت كتيبة المشاة الإسرائيلية المنطقة.
بحسب بلوخ، إن حرق الجنود جاء بعد رمي القنابل الفوسفورية التي أدت إلى مقتل 80 جندياً فيما أُسر المتبقون.
إزاء الصمت الذي فرضه الجيش الإسرائيلي على القضية، كشف في حينه الراهب غي خوري من دير اللطرون أن قوة صغيرة من الجيش الإسرائيلي وصلت إلى الكيبوتس، ترافقها جرافة، فحفرت قبراً في المكان بطول عشرين متراً، وأضاف في مذكراته التي اعتمدها الأرشيف، أنه لم تؤخذ أية علامات تشخيص من الجنود المصريين لتساعد في المستقبل على تحديد شخصياتهم.
أحد جنود الجيش الإسرائيلي الذي وجد في المكان أحصى نحو 80 جثة، بينما انتشرت إشاعة في الكيبوتس تتحدث عن أحد أعضائه الذي نزع ساعة ثمينة من أحد القتلى، وبقيت في يده حتى وفاته، فيما قال آخر إنه أخذ تذكاراً من أحد القتلى، بندقية كلاشنيكوف.
شهادة صادمة عن الدفن
ضمن ما يشمله هذا الملف شهادة تقشعر لها الأبدان عن هذه الجريمة، جاءت على لسان عضو الكيبوتس رامي يزراعيل الذي قال “وصلت مع مسؤول في الكيبوتس لفلاحة الأرض، وعندما مررت قرب الشارع في الطريق إلى القسيمة رقم 5 شعرت بوجود رائحة كريهة من القبر الجماعي الكبير لرجال الكوماندوس، ولأنني لم أتمكن من المواصلة بسبب الغثيان، قررت فحص هذا الأمر، فاكتشفت أيدي وأرجلاً منفصلة للكوماندوس المصريين، التي كما بدت أصابتها العبوات الناسفة وتهشمت، فدفنتها بالمجرفة، لكن هذا لم ينفع واستمرت الرائحة، فتوجهت إلى القبر الجماعي الكبير، ويا للذعر، برزت من هناك نصف جثة، غطيتها بسرعة”.
باعتراف ضابط مسؤول في الجيش الإسرائيلي، حُظر نشر هذه القضية خشية أن تثير ضجة إقليمية لبشاعة تفاصيلها.
المصدر أندبندنت عربية