مي الشريف
تستقبل السعودية الرئيس الأميركي جو بايدن يومي 15 و16 يوليو (تموز) الحالي بدعوة من الملك سلمان، في زيارة هي الأولى للرياض منذ انتخاب بايدن أواخر 2020، بعد أكثر من عام ونصف العام من البرود الذي يهيمن على العلاقات بين البلدين، والتباعد الملحوظ بين الطرفين، على الرغم من عمق العلاقات الثنائية التاريخية والشراكة الاستراتيجية بين الرياض وواشنطن، وهي علاقات بقيت صامدة مع بعض الخلافات التي عصفت بها مرات عدة، لأسباب مختلفة أبرزها تغير الملوك والرؤساء، واختلاف الأجندة والأولويات.
الشراكة السعودية الأميركية مواكبة لنهضة البلدين، فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بخروج الولايات المتحدة منتصرة وتبوئها مكانة عظمى بين دول العالم كان اللقاء الأول بين الرئيس فرانكلين روزفلت والملك السعودي عبد العزيز آل سعود بعد نحو 14 عاماً من توحيد البلاد وترسيخ جذور الدولة، إذ كان اللقاء عام 1945 على ظهر البارجة الأميركية “كوينسي” في البحر الأحمر، لتوثيق الخطوة الأولى لتحالف استراتيجي محوري بين البلدين، وصفه محللون بأنه لقاء وضع حجر الزاوية لعلاقات استراتيجية وتحالف ممتد لنحو ثمانية عقود، لا تؤثر فيه متغيرات ومنهجيات الحزب الحاكم المنتمي له الرئيس.
بداية العلاقات
تشير صفحة مكتب المؤرخين المرتبطة بوزارة الخارجية الأميركية إلى أن الولايات المتحدة كانت من الدول التي اعترفت بقيام مملكة الحجاز ونجد وتوابعها في عام 1931، إلا أن العلاقات السعودية الأميركية بدأت عندما وقعت الحكومة السعودية اتفاقية مع شركة كاليفورنيا العربية للنفط (California Arabian Standard Oil Company) عام 1933، لمنحها حقوق امتياز البحث عن النفط واستخراجه، ولم يكن للحكومة الأميركية أي دور في هذا الامتياز حينها.
مع تزايد أهمية البترول إبان الحرب العالمية الثانية، وفي ظل المكاسب النفطية والمالية التي حققتها الرياض كبلد ناشئ وغير منحاز لأي من القوى العظمى، بادرت الإدارة الأميركية لإنشاء تحالف استراتيجي مع السعودية، رغبة في حصد مزيد من المكاسب النفطية والمالية للشركات الأميركية، وفي عام 1940 أُسست أول بعثة دبلوماسية دائمة وعلاقات كاملة بين البلدين وافتتحت المفوضية الأميركية في جدة عام 1942 والتي تحولت في ما بعد إلى سفارة رسمية.
اللقاء الأول ديمقراطي
أشار ويليام إدي السفير الأميركي في السعودية (1944 – 1946) في كتابه “ف د ر يلتقي ابن سعود” أن اللقاء بين الملك عبد العزيز وروزفلت في فبراير 1945 كان بطلب الأخير الذي عاد لبلاده ووقف في مجلس الشيوخ مخاطباً نوابه في الشهر التالي قائلاً “تعلمت عن المشكلة العربية كلها -المسلمين ومشكلة اليهود- عبر التحدث لخمس دقائق مع الملك عبد العزيز أكثر مما يمكن أن أتعلمه عبر تبادل عشرات الرسائل”، وهو ما عني أن اللقاء بدأ يؤتي ثماره.
بعد ذلك بأسابيع وتحديداً في 4 أبريل (نيسان) من العام نفسه بعث روزفلت إلى عبد العزيز رسالة يعده فيها ألا يفعل شيئاً قد يكون معادياً للعرب، بل ضمن له أيضاً عدم حدوث تبدل أساسي في سياسة الولايات المتحدة تجاه فلسطين من دون التشاور مع اليهود والعرب، لكن القدر لم يمهل روزفلت لتنفيذ وعده، فتوفي بعد إرسال البرقية بأسبوع، ولم يفِ خليفته هاري ترومان بتلك الوعود، لتبدأ العلاقة في المرور بمنحنيات تصاعدية وتنازلية حسب توجهات الرؤساء الأميركيين ومنهجيات الحزب الحاكم، وحسب رؤى القادة السعوديين لأولويات المصالح والعلاقة.
مواقف متباينة
على الرغم من أن تتويج العلاقة بين واشنطن والرياض وتحويلها إلى حلف سياسي وثيق جاء على يد فرانكلين روزفلت، أحد صقور الحزب الديمقراطي، فإن محطات البرود والاختلاف بين البلدين وقعت أغلبها في فترات رئاسة الحزب، وذلك لأسباب مختلفة أعادها محللون إلى أن الديمقراطيين يتسمون بالتهاون في اتخاذ القرارات، وعدم التمسك بالحلفاء، مفضلين لغة الحوار والقوة الناعمة، أما الحزب الجمهوري فخلق مصلحته مع الحليف السعودي عبر أعضائه من أصحاب شركات النفط والتسليح الثقيل. واعتبر خبراء السياسة العالميين أن ميزة تبادل النفط والسلاح بين أميركا وأكبر بلد نفطي هي ما تجعل الجمهوريين أكثر دعماً وقرباً للرياض وقادتها من الديمقراطيين.
كبوة كينيدي
حدث الفتور الأول بين البلدين في عهد الرئيس الديمقراطي جون كينيدي، حين كان الانقلاب العسكري في اليمن عام 1962 كبوة في مسار العلاقة الاستراتيجية بين البلدين، فبعد إطاحة العقيد عبد الله السلال المدعوم من القاهرة الإمام محمد البدر المدعوم من الرياض، كانت الحكومة السعودية تنتظر ردة الفعل من الرئيس جون كينيدي، بخاصة أنها أول أزمة تمثل تهديداً للسعودية.
الرئيس كينيدي يستقبل الملك فيصل بن عبد العزيز عندما كان ولياً للعهد في البيت الأبيض في 8 أكتوبر 1962 (غيتي)
وعلى الرغم من الوعود والضمانات التي تلقاها الملك فيصل من كينيدي فإن السياسة الأميركية لم تتفق مع الإرادة السعودية، ولم تتعدَّ خطابات استنكار للأحداث ورسائل شديدة اللهجة للرئيس المصري جمال
عبد الناصر، واتجهت واشنطن إلى الاعتراف بالجمهورية اليمنية لقطع طريق التقدم نحو الجمهورية الوليدة على الاتحاد السوفياتي، ما سبب توتراً في الشراكة السعودية الأميركية، ترجمته الرياض في خطاب رسمي شديد اللهجة أرسله الملك فيصل عام 1963 إلى الرئيس الأميركي عبر فيه عن استنكاره وخيبته لتنصل الحكومة الأميركية من وعودها التي تلقاها مسبقاً، واستمرت العلاقات باردة بين البلدين حتى اغتيال الملك فيصل عام 1975.
فتور كارتر
في عهد الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر، أصيب الملك فهد -وكان حينها ولياً للعهد- بخيبة أمل كبيرة بعد إعلان نتائج اتفاقية كامب ديفيد للسلام التي وقعها الرئيس المصري أنور السادات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن عام 1978 بمباركة وسعي الرئيس الأميركي كارتر، ولم تكن خيبة أمل الحكومة السعودية من نتائج الاتفاقية والحصة المجحفة التي حصل عليها الجانب الفلسطيني من الاتفاقية، بل من عدم إيفاء واشنطن بالضمانات والعهود التي قطعتها الإدارة الأميركية للسعودية بتحقيق عدالة واقعية في القضية الفلسطينية.
استمرت حالة الفتور بين الطرفين حتى فبراير (شباط) عام 1979 عندما ألغى الملك فهد رحلة إلى واشنطن كي لا يشارك في الادعاءات الأميركية بالسعي نحو السلام، وعندما زعمت واشنطن أن الإلغاء يرجع لأسباب صحية أصدرت الرياض نفياً رسمياً للبيان الأميركي.
شهدت نهاية السبعينيات بلورة جديدة للعلاقات الاستراتيجية بين الرياض وواشنطن، حيث اتفق الطرفان ضمنياً بأن خلافاتهما في شأن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ورعاية أميركا لها يجب أن تبقى منفصلة عن المجالات الأخرى في المصالح المتبادلة، كما بدأت تظهر وجهة نظر سعودية تقول إن الأميركيين لا تحركهم سوى مصالحهم النفطية، والسبب هو تخلي إدارة كارتر عن حليفهم الشاه محمد رضا بهلوي بعد انتصار الثورة الإيرانية بقيادة روح الله الخميني، وكذلك تقارب الإدارة الأميركية مع النظام الإيراني الجديد على الرغم من اندفاعه ورغبته في تصدير الثورة للدول المجاورة، إلا أن هذا التقارب انقلب رأساً على عقب عندما اجتاح إيرانيون متحمسون السفارة الأميركية في طهران، وأخذوا عشرات الأميركيين رهائن لهم، ما تسبب في نقمة واشنطن حيال طهران، وسارت في اتجاه العداء المفتوح والمواجهة الحادة مع النظام الجديد.
تمرد ووعي
بدت سياسة الرئيس الأميركي بيل كلينتون متمردة تجاه المصالح السعودية والشراكة الاستراتيجية بين البلدين، ففي حملته الانتخابية التي فاز بها عام 1993 قال إن تنويع مصادر النفط هو الوسيلة لحماية مصالح الولايات المتحدة، وعقب توليه مهام منصبه سعى إلى تقليل الاعتماد على النفط السعودي واستيراده من أفريقيا وبحر الشمال وكندا، وكذلك تطوير مصادر الطاقة في بحر قزوين، حتى وصل استيراد واشنطن للنفط من الرياض عام 1995 إلى 17 في المئة، وهو ما أثر سلباً في الاقتصاد السعودي، إلا أنه في عام 1999 تغير الحال، حيث أدى التذبذب في طلب النفط إلى تقلص الأسعار وانخفاض الإنتاج، حينها طلبت واشنطن من الرياض زيادة الإنتاج، إلا أن الوعي السعودي كان يقظاً، فرفضت الرياض هذا الأمر واهتمت بتعافيها اقتصادياً أكثر من اهتمامها بتحسين العلاقات مع واشنطن.
الملك فهد وبيل كلينتون لدى زيارته السعودية في 29 أكتوبر 1994 (غيتي)
إرث أوباما
عاش الرئيس باراك أوباما ثماني سنوات داخل البيت الأبيض، كانت هي الأكثر توتراً مع السعودية، بسبب كيفية تعامل واشطن مع عدة ملفات مصيرية أبرزها سياسته في تصعيد نيران ما يسمى “الربيع العربي”، ودعمه جماعة الإخوان المسلمين، وأداؤه المتعثر في سوريا، وعدم جديته التي ساعدت على ظهور كثير من الحركات الإرهابية التي ما زال العالم العربي يعانيها أبرزها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وجبهة النصرة السورية، إضافة إلى التقارب مع طهران، وتطوره إلى “اتفاق نووي” تم توقيعه عام 2015، وهو ما أثار غضب بعض صقور الساسة الأميركيين أنفسهم فضلاً عن الرياض، التي انتقدت عدم وضع واشنطن مخاوف حلفائها والتهديدات التي تطالهم من إيران في الاعتبار.
عاش الرئيس باراك أوباما ثماني سنوات داخل البيت الأبيض، كانت هي الأكثر توتراً مع السعودية (أرشيف البيت الابيض)
تردد وقبول
الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن أعلن مواقف مناهضة للسعودية وولي عهدها خلال حملته الانتخابية، لكنه بعد فوزه في 2020 بدا متردداً ما بين الوعود الانتخابية والمصلحة الاستراتيجية، فهيمن على الشراكة المتبادلة خلال ولايته نوع من الجمود والفتور، قبل أن يكسر الملك السعودي حاجز الجليد ويوجه له دعوة لزيارة المملكة، وهي الدعوة التي قوبلت بالموافقة المباشرة والسريعة، وبدأ العالم يترقب اللقاء وما سيسفر عنه.
وأشار الكاتب ديفيد اغناطويس في مقاله بصحيفة “واشنطن بوست” إلى أن “لحظة مصافحة الرئيس بايدن مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان باتت قريبة، وأن المصالح الأميركية تحتم على إدارة البيت الأبيض التواصل وإعادة ضبط العلاقات وعودة المياه إلى مجاريها”.
اعتماد متبادل
على مدى 77 عاماً أثبتت الشراكة السعودية الأميركية متانة استراتيجيتها وقوة أواصرها، وأنها ربما تتأثر بالسياسة وتوجهات قادة البلدين، لكنها لا تنحني أمام الرغبة السياسية، بل تفرض نفسها بقوة المصلحة المتبادلة، وهو ما عبر عنه الكاتب الأميركي ستيفن أم والت في كتابه “أصول التحالف”، حين لفت إلى إمكان اختزال حالة العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة بعبارة “الاعتماد المتبادل Mutual Dependence”.
ويبدو أن السياسة الواقعية كانت رهان السعوديين منذ تأسيس البلاد، حيث يرى الواقعيون أن الدول التي تضع أمنها ومصالحها الوطنية الخاصة على رأس أولوياتها، هي لاعب رئيس وفاعل في الساحة الدولية، وهي المعطيات والاستنتاجات نفسها التي جعلت بايدن يبادر بقبول الدعوة السعودية على الرغم من وعوده الانتخابية في جعل الرياض منبوذة.
بصرف النظر عما سيسفر عنه اللقاء من اتفاقيات وعقود لتعميق الشراكة المتبادلة، إلا أن إجراء اللقاء في جدة بحد ذاته يعتبر تضميداً للجراح السياسية التي سببتها تصريحات بايدن في حملته الانتخابية، وتكريساً لعقيدة المصلحة الاستراتيجية التي تعد داعماً لجسد الشراكة حتى لو تغير رداء السياسة.
المصدر أندبندنت عربية