طارق أبو السعد
كاتب مصري
لطالما رغب الإسلامويون في التشبّث بالماضي؛ معتقدين أنّه زمن الانتصار، فمجدوه وأسبغوا عليه هالة من القدسية، وعندما تحكّموا في الخطاب الجماهيري، في فترة من الزمن، صبغوا المجتمع بثقافة الهروب من الواقع إلى الماضي.
إنّ الهروب إلى الماضي مجرّد حيلة لتخفيف ضغوط الواقع المهزوم؛ فقد هربوا بحثاً عن انتصار يعيد لهم الأمل في العودة، ولأنهم يحتاجون إلى حكايات تخدّر عقولهم، لتحتضن الهاربين من جحيم الحاضر والباحثين عن مأوى في الماضي.
وليس أسوأ من الهروب إلى الماضي إلا صناعة انتصار مزيّف، فمن أجل البقاء في كهف الماضي، زيّنوه مرّة بالقصص الخيالية، ومرة بالأناشيد الحماسية والحكايات، مثل أنشودتهم المشهورة: “ملكنا هذه الدنيا قروناً، وأخضعها جدود خالدون، وسطرنا صحائف من ضياء، فما نسي الزمان وما نسينا”، وعند البحث عن الصحائف التي من ضياء، أو الجدود الذين ملكوا الدنيا، نسج الهاربون إلى الماضي كثيراً من قصص انتصار الوهم، وأشهر تلك القصص؛ الرسالة المزعومة التي أرسلها ملك إنجلترا، جورج الثاني، إلى الخليفة الأندلسي، هشام الثالث، وأحياناً عبد الرحمن الناصر، تقول الرسالة المنحولة: “من جورج الثاني، ملك إنجلترا والسويد والنرويج، إلى الخليفة ملك المسلمين في مملكة الأندلس، صاحب العظمة، هشام، الجليل المقام، بعد التعظيم والتوقير؛ فقد سمعنا عن الرُقيّ العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم، لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة، وقد وضعنا ابنة شقيقنا، الأميرة دوبانت، على رأس بعثة من بنات أشراف الإنجليز، لتتشرف بلثم أهداب العرش والتماس العطف، وتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم، وفي حماية الحاشية الكريمة، والحدب من قبل اللواتي سوف يقمن على تعليمهن، وقد أرفقت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل، أرجو التكرّم بقبولها، مع التعظيم والحبّ الخالص من خادمكم المطيع (جورج الثاني)”.
الهروب للماضي مجرّد حيلة لتخفيف ضغوط الواقع المهزوم؛ فقد هربوا بحثاً عن انتصار يعيد لهم الأمل بالعودة
لا نهدف هنا كشف زيف الرسالة؛ فقد كشفه كثير من الباحثين، حين أوضحوا أنّ ملك إنجلترا، جورج الثاني، ولد عام ١٦٨٣م، أي بعد وفاة عبد الرحمن الناصر وهشام الثالث بـ ٧٠٠ عام تقريباً؛ حيث توفّي عبد الرحمن الناصر عام ٩٦١م، أما هشام الثالث؛ فقد توفّي عام ١٠٣٦م؛ بل ولد بعد سقوط بلاد الأندلس كلها بقرنين!!
كما توجد في الرسالة كلمات لم تكن تستخدم وقت هشام الثالث، مثل (معاهد الصناعات)، وحتى لقب “هشام الثالث” لم يكن مستخدماً حينها؛ بل كان لقبه الرسمي “هشام المعتد بالله”، ولقب “الثالث” أطلقه الدارسون عليه بعد انقضاء ذلك العهد، ولم يكن يملك اﻷندلس كلّها؛ بل كان في عصر بداية ملوك الطوائف، فملك قرطبة فقط، وقليلاً مما حولها.
وهذه القصة لم ترد في كتب التاريخ المعتبرة، التي لم تترك شاردة ولا واردة في تاريخ الأندلس إلا فصّلته، مثل: كتاب “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب” للمقري، أو كتاب “دولة الأندلس في الأندلس” للمؤرخ محمد عنان، وكتاب “معالم تاريخ المغرب والأندلس” للدكتور حسين مؤنس.
هدفنا هنا كشف حيل الهروب إلى الماضي، وصناعة وهم الانتصار، وارتباطهما بعملية تزييف الوعي، والآثار السلبية في المجتمع من تزيف الوعي؛ فالرسالة ما هي إلا مثال واحد لكمٍّ كبير من الحكايات والأحداث التي تصنع انتصاراً في خيال القراء، ومن ثم تزيّف وعي المجتمع، فلا يدرك واقعه ولا مشكلاته، ولا يبحث عن المنفذ السليم والصحيح للتخلص من الجهل والتخلف، فيظلّ أسير انتصارات الماضي، الحقيقية منها والمزيفة؛ وذلك للسيطرة على الوعي الجماعي، للتحكم فيه، ثم توجيهه وفق أجندات وأفكار وتوجهات تخدم الفئة المسيطرة على ذلك الوعي؛ هذه الفئة تريد من الجماهير الإيمان بأفكار معينة، مثل: إنّ أسلافنا كانوا ملوك العالم، وإن غيرهم من الملوك كانوا يتذللون إليهم، ويخاطبونهم بلقب “خادمكم المطيع”!، ثم يخبروننا بهدوء؛ بأنّ هذا المجد لم يكن إلا لأننا كنا نحكم بكتاب الله تعالى، وإذا أردنا أن نستعيد ذاك المجد، علينا أن نعمل وفق آلياتهم وتصوراتهم عن الدين.
المعركة الحقيقية مطاردة الحكايات المنحولة، وإن كانت مبعث فخر؛ لأنّها فخر كاذب، فبالمنهج العلمي نتخص من التخلف
هذه الأفكار لم تزرع مباشرة في عقول الناشئة، لكن بالتدريج؛ فتبدأ الجماعات بالترويج لمثل هذه الحكايات، ثمّ تتبعها بأناشيد تلهب الحماس، تجعل النفوس تهفو إلى ذلك الماضي التليد، ثم يأتي المبشِّرون بعودة الانتصار إذا انضمّ الناس إلى جماعتهم، وقد لا يدعونهم إلى جماعتهم، فيكفيهم أنهم نجحوا في تهيئة العقول لتقبل الخطابات الماضوية، والقابلية للتعايش مع وهم الانتصار، كلّ هذا سيحدث إذا سمحنا لعقولنا ووعينا أن يصبحوا ملكاً وأجيراً للوهم، وليس أدلّ على أنّ الوهم يكاد ينتصر من انتشار تلك الرسالة على ألسنة الخطباء، وفي كلمات الواعظين، كما أوردها بعض الكتّاب، أما ما يثير الغضب فعلاً؛ أنّ بعضهم ينسبها إلى ابن عبد البرّ، في كتابه “الاستذكار”، لا لشيء إلا ليوهم القارئ أنها حكاية صحيحة، وبالبحث والتدقيق؛ لم نجد مثل هذه الرواية في كتاب ابن عبد البرّ أبداً، كما أنّ “الاستذكار” كتاب يشرح فيه ابن عبد البرّ أحاديث “الموطّأ” لمالك، وليس كتاب تاريخ!
إذاً، المعركة الحقيقية هي مطاردة تلك الحكايات، حتى إن كانت مبعث فخر؛ لأنّها فخر كاذب، ولا سبيل للتخلص من هوة التخلف إلا بالمنهج العلمي، على ما فيه من تعب ومشقة؛ فبالعلم ننتصر فعلاً، كما يجب التخلص من وهم الانتصار، على ما فيه من خدر لذيذ، هذه المعركة الحقيقية؛ فهل سنخوضها أم سيهرب العقلاء أمام جحافل الغوغاء؟!… الله أعلم
نقلاً عن حفريات