كريتر نت – د.ب.أ
في الوقت الذي يتركز فيه الاهتمام العالمي على المواجهة السياسية والاقتصادية بين الولايات المتحدة وروسيا، والقلق من تحولها إلى مواجهة عسكرية على خلفية الحرب الروسية في أوكرانيا، تفرض العلاقات الأميركية – الصينية نفسها على العديد من مناطق العالم، خصوصاً في آسيا والمحيط الهادئ.
ويرى السياسي والكاتب الباكستاني، مشاهد حسين، أن هناك خمسة مؤشرات تقول إن الولايات المتحدة تتبنى نهجاً عبثياً يضر بالمصالح الأميركية، أكثر مما يضر بالصعود الصيني.
بلورة سياسة خارجية
وفي تحليل نشرته مجلة «ناشيونال إنترست» الأميركية، قال رئيس لجنة الدفاع في مجلس الشيوخ الباكستاني، مشاهد حسين، إنه بعد أقل من عام على انتهاء الحرب الأميركية في أفغانستان، أطول الحروب وأشدها كارثية في التاريخ الأميركي، تحركت واشنطن بسرعة لبلورة سياسة خارجية جديدة لمواجهة التحدي الصيني.
وهناك مؤشرات عديدة على نشوب حرب باردة جديدة، لكن المثير في الأمر أن الولايات المتحدة تستخدم تكتيكات الحرب الباردة السابقة نفسها ضد الاتحاد السوفييتي من أجل احتواء التحدي الصيني. فالسياسة الأميركية الجارية تستهدف تشويه صورة الحزب الشيوعي الحاكم في الصين، كما فعلت قبل أكثر من أربعة عقود مع الحزب الشيوعي الحاكم في الاتحاد السوفييتي السابق.
ويقول مشاهد حسين الذي درس في كلية الخدمة الخارجية بجامعة جورج تاون الأميركية إن صناع السياسة في واشنطن فشلوا في إدراك أن الصين ليست الاتحاد السوفييتي، وأن الشيء الوحيد المشترك بينهما هو اسم الحزب الحاكم، فالحزب الشيوعي الصيني الذي يضم نحو 90 مليون عضو ويقود جهاز الدولة الضخم، ينضح بالحيوية والابتكار رغم السمات الماركسية التقليدية من الناحية الرسمية. كما أنه يتبنى اقتصاد السوق الحرة ويشجع العولمة وينطلق مع مقولة زعيمه الراحل دينغ هسياو بينغ «تحقيق الثراء أمر مجيد».
نموذج
وبالفعل نجح الحزب الشيوعي الصيني في تحويل الصين إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأكبر قوة تصنيعية، ونموذج للعديد من الدول النامية والصاعدة. وأطلقت الصين خلال العقدين الأخيرين الكثير من المشروعات والمبادرات الدولية والإقليمية التي تحقق من خلالها وجوداً قوياً سواء على مستوى الحكومات، أو حتى على مستوى الشعوب مثل مبادرة «الحزام والطريق» التنموية والبنك الآسيوي للبنية التحتية.
يقظة مفاجئة
وفي حين يبدو أن الولايات المتحدة تنبهت فجأة لحقيقة صعود القوة الصينية وقررت احتواءها، هناك خمسة مؤشرات تقول إن النهج الأميركي لن يحقق أهدافه وسيضر بالمصالح الأميركية أكثر مما يضر بالمصالح الصينية.
■ أول هذه المؤشرات التي رصدها مشاهد حسين، هو أن الصين نجحت خلال السنوات الأخيرة في استغلال قدراتها الاقتصادية، لكسب معركة العقول والقلوب، مستغلة تراجع الاهتمام الأميركي بقضايا العالم وتبني نهجاً أكثر انعزالية خصوصاً خلال سنوات حكم الرئيس السابق دونالد ترامب، وهو ما جعل حجم التبادل التجاري بين 130 دولة والصين أكبر من حجم التبادل التجاري لهذه الدول مع الولايات المتحدة. واستيقظت الولايات المتحدة لتجد أن الصين قد مدت شبكة بنية تحتية للتجارة والاستثمار، مع أغلب دول العالم بدءاً من جزر سليمان حتى السعودية، ومن إسرائيل حتى إندونيسيا.
وفي حين كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة تطلق التصريحات والمبادرات الاقتصادية لمساعدة دول العالم، دون أن تتحول إلى واقع ملموس، كانت الصين تقرن الأقوال بالأفعال، إلى جانب تخليها عن النهج الأميركي الذي يربط المساعدات والعلاقات الاقتصادية، بتبني الدول مواقف سياسية داعمة لواشنطن، وهو ما حقق نجاحاً كبيراً للسياسة الصينية.
وعلى سبيل المثال وفي عهد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب، أطلقت إدارته عام 2006 مبادرة «مناطق فرص إعادة البناء» على الحدود الباكستانية-الأفغانية بهدف تحقيق تنمية اقتصادية واسعة في هذه المناطق، لاستقطاب السكان بعيداً عن دعم الحركات المسلحة، لكن المبادرة فشلت بسبب رفض الكونغرس لها.
■ المؤشر الثاني هو أنه حتى الآن مازالت جاذبية الولايات المتحدة وسيطرة «قوتها الناعمة» نقطة تميز تنفرد بها الولايات المتحدة، التي تستطيع جذب أفضل العقول والمهارات من كل دول العالم، لكي تدرس وتعمل فيها. فهذا هو مصدر تفوق الولايات المتحدة عالمياً حتى الآن، وليس التحالفات العسكرية القائمة على «الصدمة والترويع» والتي خسرت كل المعارك التي خاضتها في آسيا.
لذلك فإن السعي لاحتواء الصين الآن دون أن تكون تهديداً رئيساً للمصالح الأميركية مباشرة، يعتبر محاولة متسرعة وفاشلة، وإهداراً للموارد كما حدث في «الحرب على الإرهاب» التي أطلقتها واشنطن بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية، وأهدرت فيها أكثر من 6.5 تريليونات دولار على مدى عقدين من القتال، دون الوصول إلى نتيجة حاسمة.
■ المؤشر الثالث يتمثل في حقيقة أن العام الجاري حاسم لكل من الرئيسين الأميركي جو بايدن، والصيني، شي جين بينغ، على الصعيد الداخلي.
فالرئيس الصيني يستعد لترؤس أخطر مؤتمر سنوي للحزب الشيوعي الحاكم منذ مؤتمر 1978 الذي أطلق فيه الزعيم دينغ هسياو بينغ، التحول التاريخي من الماوية إلى اقتصاد السوق، والذي أطلق عليه اسم «الاشتراكية بمواصفات صينية».
في المقابل، تخوض إدارة بايدن انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، في ظل مؤشرات قوية على تفوق الحزب الجمهوري المعارض، خصوصاً مع تدهور حالة الاقتصاد، وارتفاع معدل التضخم في الولايات المتحدة إلى أعلى مستوياته، منذ أكثر من أربعة عقود.
ويحتاج بايدن لعلاقات دافئة من شي، تتيح فرصة لتعافي الاقتصاد الأميركي، في حين يرى شي أن «الفوضى العظيمة تحت السماء» أو في العالم يمكن أن يزعزع استقرار الصين، ويعرقل محاولات إعادة الحياة إلى طبيعتها بعد جائحة فيروس كورونا المستجد.
لذلك يحتاج الزعيمان إلى نوع من الشراكة التعاونية، لتحقيق الاستقرار السياسي في الداخل، والنمو الاقتصادي، وتقليل التوترات في عالم مضطرب.
لكن أي مواجهة أو محاولة احتواء، أو حرب باردة جديدة بين بكين وواشنطن، ستهدد هذه الأهداف المشتركة.
■ المؤشر الرابع رصدته دراسة أجراها غراهام أليسون في جامعة هارفارد الأميركية تحت عنوان «التنافس التكنولوجي العظيم: الصين والولايات المتحدة»، وقالت إن الصين تفوقت بالفعل على الولايات المتحدة كأكبر مصنع للتكنولوجيا المتقدمة.
على سبيل المثال أنتجت الصين خلال 2020 نحو 1.5 مليار هاتف محمول، و250 مليون جهاز كمبيوتر، و25 مليون سيارة، وهو ما يعني أن إعادة المارد الصناعي والتكنولوجي الصيني إلى قمقمه، كما يرغب صناع السياسة الأميركية مهمة شاقة إن لم تكن مستحيلة. ففي مجالات الابتكار الأساسية والعلوم والتكنولوجيا، تقف الصين كتفاً بكتف مع الولايات المتحدة إن لم تتفوق عليها بما في ذلك في مجالات الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الجيل الخامس للاتصالات والحوسبة السحابية والإنسان الآلي.
■ أخيراً، فإن نقاط تلاقي المصالح الصينية والأميركية في العديد من القضايا العالمية الأساسية تفوق نقاط الاختلاف، بدءاً من ملف كوريا الشمالية وإخلاء شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووي وحتى الحرب الروسية ضد أوكرانيا، مروراً بتحقيق السلام والاستقرار في أفغانستان والشرق الأوسط ومحاربة التنظيمات الإرهابية مثل تنظيمي «داعش» و«القاعدة».
إذاً، وفي ضوء السياق الجاري، على الولايات المتحدة الاستفادة من تجارب الماضي والحقائق الجيوسياسية المعاصرة، لكي تبلور نهجاً جديداً للتعامل مع الصين لا يقوم على الاحتواء أو المواجهة. كما يجب تحقيق فهم واسع «لقواعد اللعبة» حتى تتمكن القوتان العظميان من التنافس دون أن يؤدي ذلك إلى اصطدام المركب بالصخور، أو الدخول في مواجهة لا داعي لها، لأن هذه المواجهة ستكون كارثة لا يحتاجها العالم، ولا يستطيع تحمل كلفتها السياسية والاقتصادية ولا حتى العسكرية.