الحبيب الأسود
لا يبدو أن هناك رئيسا أميركيّا زار منطقة الشرق الأوسط، وقابل قادة عربا، وعاد بتلك المشاعر التي عاد بها الرئيس الأميركي الـ46 جو بايدن بعد قمة جدة السبت الماضي، والتي كانت في جزء مهم منها تختزن شيئا من الخيبة والمرارة، والإحساس بأن منطلق القوة والسيطرة وإصدار الأوامر الصارمة لم يعد مجديا ولا قابلا لإعادة التسويق بين العواصم التي لم تتخلّ عن تحالفها الاستراتيجي مع واشنطن، ولكنها أصبحت قادرة على فرض شروطها وعلى التعبير عن مواقفها مما يدور حولها باستقلالية في القرار وباقتدار على تحمّل المسؤولية.
هناك روح جديدة بعثها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ورئيس دولة الإمارات الجديد الشيخ محمد بن زايد في جسد المنطقة، وتم التأكيد عليها في قمة جدة، وهي أن زمن التبعية قد ولّى، حتى في العلاقات التقليدية والعريقة، وتم استبدالها بسياسة التوازنات الاستراتيجية وفق المصالح الوطنية غير القابلة للمساومات، وذلك وفق رؤية ناتجة بالأساس عن إعادة قراءة التاريخ والجغرافيا وتقدير الموقع والدور والظروف والإمكانات، فدول الخليج عموما وفي صدارتها السعودية تشكّل أهمية اقتصادية ومالية وأمنية واستراتيجية وحضارية قصوى للعالم، ولديها من المقدرات ما يعطيها إمكانية التعامل من موقع الندية مع الدول الكبرى ولاسيما أن الاقتصاد هو المحرك الحقيقي لقاطرة السياسة، وأن تنافس القوى الكبرى على أشده من أجل طلب ودّ الرياض وأبوظبي وبقية عواصم الخليج وتوطيد علاقات التعاون معها.
لم يكن أمام جو بايدن إلا التخلي عن عنجهيته الفضفاضة والذهاب إلى جدة بحثا عن امتدادات الماضي الذي لن يعود، فالمملكة تحولت اليوم إلى قوة قادرة على مغادرة الجلباب الأميركي ولكن بالكثير من الكياسة الدبلوماسية، ومحمد بن سلمان قلب جميع المعطيات وأكد قدرته على تشكيل دور أهم وأكبر وأوسع لبلاده في عالم لا يعترف إلا بالمصالح، وكشف للآخر أنه يمتلك عددا من اللاءات غير القابلة للتراجع، ومنها لا للتدخل في الشأن الداخلي للمملكة، ولا للمساس من سيادتها أو من قيادتها، ولا لأيّ إملاءات بشأن تحديد علاقات بلاده الخارجية، ولا للخضوع لأيّ محاولات للابتزاز من أيّ طرف كان، ولا تصغير أبدا لكتف المملكة في أيّ ظرف كان ومن قبل أيّ طرف كان، ولاسيما أنها تعرف حاليا حراكا إصلاحيا غير مسبوق تدعمه إرادة شعبية واثقة من خطوات قيادتها في اتجاه المستقبل الذي تتحدد ملامحه من خلال مجريات الحاضر المبني على روح التحدي وعلى رؤية التأسيس الثاني للمملكة.
كان على بايدن أن يتخلى عن تلك المواقف المسبقة من المملكة ومن ولي العهد والتي كان أعلن عنها خلال حملته الانتخابية، وأن يدرك أنه لن يذهب إلى جدة لإعطاء الدروس أو إصدار الأوامر، وأن محمد بن سلمان لن يكون تابعا في حضرته خلال اللقاء الثنائي، وإنما سيكون قائدا يرفع صوته عاليا بالاعتماد على ثقة شعبه وقدرات بلاده ودورها في المنطقة، ويقول كلمته كما يشاء لها أن تكون تعبيرا عن كرامة الانتماء.
لم يكن بوسع بايدن أن يدخل المملكة لإدانة قيادتها، أو لتمرير مواقف المتشددين في إدارته وحزبه التي لا تزال تتميز بعدائها المرَضي للعرب، وبخطابها الاستعدائي والاستعلائي نحوهم، وبدفاعها المستميت عن الجماعات المتطرفة والخائنة لأوطانها والمرتزقة من موائد التآمر الإقليمي والدولي على منظومة الاعتدال العربي وفي مقدمتها السعودية ومصر والإمارات التي كانت حاضرة بقوة في قمة جدة، وعبّرت عن مواقفها بشجاعة الأقوياء غير القابلين للتنازل عن ثوابتهم المتعلقة بمصالح دولهم وأمتهم.
وضع الأمير محمد بن سلمان النقاط على الحروف في لقائه بالرئيس الأميركي، وعبّر عن ضمير بلاده وعن مبادئ العروبة الحضارية التي بدأت تشكّل خارطة المستقبل بروح القوة والجرأة بعد فشل العروبة السياسية التي اهترأت بفعل الشعارات الخادعة والهزائم المدوية والعلاقات المتوترة بين الحكام والشعوب والفساد المعشش في أركان بنائها التنظيمي والأيديولوجي والفشل الذريع في تحقيق طموحات الجماهير في التنمية والتطوير وتوفير الحياة الكريمة.
تبدو السعودية اليوم أكثر تحرّرا من التزاماتها السابقة نحو حلفائها التقليديين، وأكثر وعيا بأن زمن وضع البيض في سلة واشنطن لوحدها قد انتهى، خصوصا أن الأميركي لا يمكن الوثوق به بالشكل الذي يدفع نحو التعويل الكليّ عليه، وكان واضحا أن الرئيس الأميركي اصطدم بخطاب سعودي وعربي مختلف، فمحاولات ترويجه للعداء مع روسيا والصين لم تفلح في قمة جدة وفي كواليسها، ومساعيه لإخراج الرياض وأبوظبي من دائرة التزاماتها ضمن أوبك+ فشلت حتى قبل أن يعلن عنها. وحتى رغبته في التسويق لحرب ضد إيران تتورط فيها دول الخليج العربي قبل غيرها قوبلت بإشارات سياسية مهمة نحو طهران عبّرت عنها المملكة والإمارات بقوة، وسيكون على نظام الملالي التعامل معها بإيجابية تخدم مصالح جميع الأطراف المتداخلة في المنطقة.
غادر بايدن مطار الملك عبدالعزيز بجدة، دون أن يحقق أيّ مكاسب تذكر، ودون أن يتحقق شيئا مما تم الترويج له سابقا عن الاتجاه لتشكيل تحالف عسكري إقليمي برعاية واشنطن، ومن إمكانية إقناع الدول الخليجية برفع سقف إنتاج الطاقة بما يغطي العجز الحاصل بسبب العقوبات المفروضة على روسيا. وحتى بالنسبة إلى السلام مع إسرائيل فإن الرياض تدرك جيدا كيف تتخذ خطواتها المناسبة في الوقت الذي يناسبها، ونظرا لثقل موقعها السياسي والروحي والحضاري، فإنها لن تتقدم في أيّ اتجاه دون التأكد من المكاسب التي ستتحقق على الأرض لفائدة جميع الفرقاء الإقليميين.
ويوم يتحقق السلام بين الرياض وتل أبيب، فإن ذلك يعني تحولا جذريا واستراتيجيا في المنطقة وطيّا لصفحات العداء المعلن والصراع الصارخ حينا والصامت أحيانا ليس بين بلدين، ولكن بين مرجعيتين دينيتين وثقافتين وحضارتين، وإعادة لكتابة التاريخ في سياقات جديدة تجعل من الشرق الأوسط منطقة سلام وأمن واستقرار وتنمية شاملة وعدالة ناجزة وحقوق مصونة.
من حق العرب أن يأملوا خيرا في المستقبل، ومن حق السعوديين أن يفخروا كثيرا بالقائد الشاب الذي انتصر إلى حد الآن في معاركه، وأثبت جدارته بالزعامة، وكرّس رؤيته للواقع وللمستقبل بروح المبادرة المنسجمة مع مقدرات المملكة كدولة استثنائية في محيطها وكقوة كبرى حقيقية لم تكن تحتاج إلا لمن يكتشفها ليستفيد منها في تحديد موقعها في خارطة الفعل السياسي والاقتصادي والاستراتيجي والحضاري الدولي والإنساني.
لقد رفع الأمير محمد بن سلمان مجموعة اللاءات التي جعلت بايدن وفريقه يعيدان قراءة الحسابات المتعلقة بالمملكة والمنطقة، فلا تنازل عن السيادة ولا تراجع عن الثوابت، ولا مساس بخيارات الدولة في علاقاتها الخارجية وفي تحديد مصالحها الاستراتيجية، ولا قبول بالتدخلات الأجنبية ولا بالتوصيات الاستعلائية، ولا بالمساومات المسقطة مهما كان مستواها أو كان موقع القائمين بها أو حجمهم، ولا تبعية عمياء لأيّ طرف دولي حتى وإن كان حليفا استراتيجيا كالولايات المتحدة، وهي لاءات منتصرة في سياقات تشكّل ملامحها بانتصار صاحبها في معاركه التي حاول أقوياء العالم والإقليم فرضها عليها لكنه خرج منها أقوى حضورا وأشدّ بأسا.
المصدر العرب اللندنية