حسن إسميك
في العالم العربي، السياسة خبز الناس اليومي، ماؤهم وهواؤهم، ومن دونها لا يستطيعون إكمال حياتهم أبداً.
قد تبدأ الأحاديث السياسية منذ ساعات الصباح الأولى ولا تنتهي حتى ساعات الليل الأخيرة، داخل الأسرة، مع الأصدقاء، مع الزملاء في العمل، أو حتى مع غرباء في المقاهي أو المحال التجارية… وما أكثر وأعقد وأحرج النقاشات السياسية التي تدور مع سائقي سيارات الأجرة، وبخاصة في بيروت ودمشق والقاهرة وبغداد، وستصل غالباً إلى مقصدك قبل أن يوشك الحديث حتى على الانتهاء! إذن، السياسة في بلادنا هي التي تملأ الدنيا وهي شاغل الناس، ورغم ذلك قلة من العرب يجدون أن لديهم الرغبة في أن يكونوا مشتغلين في السياسة، لا منشغلين بها وحسب.
تنسحب هذه الحالة إلى الدول والحكومات العربية أيضاً، ورغم أن السياسة هي وظيفة هؤلاء الأولى والرئيسة إلا أن العمل السياسي بمفهومه العالمي الشامل، لا يزال في بلادنا غير متبلور بشكل كامل أو كافٍ ليحقق لهذه الدول طموحاتها على مختلف الصعد المحلية والإقليمية والعالمية.
لا أظن أن السياسة بالنسبة الى العرب كما هي بالنسبة الى الدول المتقدمة، أو كما هي في تعريفات هذا المفهوم أصلاً، ويعود ذلك غالباً إلى السيرورة التاريخية التي مرت بها هذه البلاد.
يقول ابن خلدون: “العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك”، قاصداً في الغالب العرب ما قبل الإسلام، وحتى نشوء الدولة العربية الإسلامية وامتدادها، لم يحمل نعمة كبيرة على الحياة السياسية، إذ ما لبث الملك أن تحول إلى صراع على السلطة، لا تزال بعض جزئياته تسم السياسة العربية إلى يومنا هذا.
كذلك سمح حال التدهور الذي شهدته الدولة العربية أواخر زمن العباسيين وما بعده، بانحدار الحياة السياسية وتدخل القوى المجاورة، من قبيل الفرس والمماليك وغيرهم… والذي انتهى بسيطرة عثمانية امتدت على أكثر من أربعة قرون، ورسخت في الوعي الجمعي العربي فكرة أن السياسة هي محاباة السلطان وتملقه، وأن أولوية العمل السياسي ليست الشعب أو مصلحة البلاد العليا، بل مصلحة “الباب العالي” وما يراه مناسباً لـ “الرعية”.
ثم عادت تلك السيرورة التاريخية لتضع العرب الخارجين للتو من ربقة العزلة العثمانية –مطلع القرن الماضي– في موضع المدافع، فكل العيون على بلادهم، في حين أن دولهم وحكوماتهم –إن وجدت في حينه– كانت لا تزال غضة وغير ذات باع، أولاً في مواجهة الانتداب البريطاني والفرنسي خصوصاً، وبعدها في مواجهة إرادة الدول العظمى إنشاء وطن قومي لليهود في قلب العالم العربي على أرض فلسطين.
كل هذه الأمور جعلت مخاض ولادة “السياسة العربية” عسيراً، وجعلها تولد بالأساس وفيها تشوهات ومشكلات.
ما هو أبسط تعريف للسياسة؟ فن الممكن؟ لم تكن السياسة كذلك يوماً بالنسبة الى العرب، بل كانت دائماً فن السير في حقل من الألغام، بين أهداف من قبيل مواجهة المطامع الخارجية، وبناء التحالفات في الوقت نفسه، مع ضرورة إرضاء الشعب إلى حد ما، والحفاظ التام وغير المشروط على السلطة، ومواجهة الإيديولوجيات الوافدة؛ السياسية أو الاقتصادية، أو التماهي معها، وبالطبع تحصيل المزيد من النفوذ الإقليمي وإن كان ذلك في الكثير من الأحيان على حساب الشعوب الشقيقة.
إذن، فالدول العربية مشغولة دائماً بالسياسة، لكن ما تشتغله ليس هو السياسة!
ورغم وضوح هذه المعضلة وقدمها، لا أجد الكثير من المساعي الفكرية الجادة للخروج منها، ورغم أن محللين وكتاباً كثراً ناقشوا فكرة “الفشل السياسي العربي” أو “الاغتراب السياسي العربي” أو التراجع أو الضعف أو… إلا أن أغلبيتهم العظمى –سواء أكانوا عرباً أم أجانب– تعاملوا مع هذه الحالة وكأنها أمر واقع لا مناص منه، فحللوا أسبابها من دون التفكير بالحلول أو تقديم أي مقترحات، وكأن العرب محكومون بهذا النمط غير الصحي من السياسة، فلا تغيير ولا تطوير بل إعادة إنتاج مستمرة للأزمة ذاتها.
تميزت هذه المقاربات للواقع السياسي العربي باعتمادها –عموماً– على مبدأ الثنائيات المتضادة في تفسير الأوضاع السياسية العربية، هذه الثنائيات تبسيطية الى حد التسطيح، وتحاول اختزال الديناميات السياسية في المنطقة إلى مواجهات من قبيل: الاستبداد مقابل الديموقراطية، الإسلاموية مقابل العلمانية، العروبة مقابل الحدود القُطرية، العربي ضد الإسرائيلي، الاشتراكية مقابل الرأسمالية، روسيا مقابل أميركا، السلطة مقابل الشعب، العسكري مقابل المدني، النخبة مقابل العامة، السُنَّة مقابل الشيعة، المحافظة مقابل التجديد… إلخ من الثنائيات المماثلة، الموجودة طبعاً في دولنا، لكن من دون أن تكفي أيٌّ منها لتفسير طبيعة ثقافة منطقتنا السياسية أو طبيعة الانشغال الرسمي أو الشعبي بالسياسة، بل يتطلب تفسير الأمر فهمها كلها، وعلاقاتها البينية وتأثير كل منها في غيرها، بخاصة أن هذه الثنائيات قد تمتد لتصير ثلاثيات ورباعيات… هذه الديناميات المعقدة تدخل في صميم الثقافة السياسية العربية، وهي التي أدت وتؤدي إلى وصول الواقع العربي إلى ما هو عليه اليوم، أو إلى الحالة التي أتكلم عنها هنا، “الانشغال بالسياسة من دون الاشتغال بها”.
على سبيل المثال وحول الثنائية الأولى، يقف التحليل عند نقطة “استمرار الأنظمة غير الديموقراطية العربية”، ما يعني أن الواقع العربي سيظل على ما عليه، وهذا برأيي بعيد تماماً من الصحة ناهيك بالدقة، صحيح أن هناك عدة أنظمة غير ديموقراطية في العالم العربي، إلا أن هذا لا يعني أنها مستبدة بالمقابل، ولا يعني كذلك أن هذه الدول لا تحاول تجديد أدواتها ودينامياتها في الداخل والخارج بهدف تغيير “الأمر الواقع” القائم بالنسبة اليها كدول منفردة، أو بالنسبة الى المنطقة العربية بشكل أعم، وبما يتجاوز طبيعة النظام الحاكم، وقد بتنا نشهد حركة سياسية عربية نشطة، وإن كانت لا تزال أقل من المطلوب والكافي، سواء على مستوى السياسات البينية، أم الإقليمية، أم الدولية أيضاً.
ولنتحدث عن المشاركة السياسية، وهي بدورها وإن كانت لا تزال خجولة، ومحكومة بتراكمات قديمة مثبطة، إلا أنها في العقد الأخير آخذة في التزايد وفي مختلف الدول، سواء أكانت من تلك الدول التي مرت بها “أعاصير الربيع العربي” أم التي سلمت منها إلى حد ما، وأظن أن المشاركة السياسية المدنية –البعيدة من الإسلام السياسي– التي تشهدها المنطقة اليوم، هي الأعلى منذ عقود، وتتم اليوم في ظل الأنظمة ذاتها، ما يعني أن مستويات الانفتاح في طور التزايد، ومعها الثقافة السياسية المدنية في المنطقة.
قد يربط البعض هذا الانفتاح على المدني –بخاصة لدى الشباب– بحراكات ما يسمى “الربيع العربي”، وهذا قد لا يكون خاطئاً تماماً، لكني أراه نتيجة حتمية للانفتاح على العالم بالعموم الذي ولدته ثورة الاتصال والتكنولوجيا، لقد بدأ مفهوم “السياسة” يتغير لدى الكثيرين، ولقد اعتدنا أن تكون السياسة –ربما بسبب معناها في اللغة، أو بسبب الممارسات التي تمت باسمها عربياً على امتداد نحو قرن– مرتبطة بالسلطة وحدها، والوصول إليها وتوليها. واليوم تأخذ السياسة بالابتعاد شيئاً فشيئاً عن هذا المعنى، وتقترب أكثر من معناها القديم في اللغة الإنكليزية المرتبط بالدولة-المدينة، فيمكنك أن تقوم بكثير من الأفعال التي قد لا تكون بالضرورة سياسية إلا أنها في النهاية تؤدي إلى ما هو سياسي، والأنشطة المدينة خير مثال، فهي كلما ابتعدت عن الجانب “الخيري” البحت، كلما اقتربت أكثر من السياسي، وأظن أن المجتمع المدني آخذ في النمو أكثر فأكثر في هذا الاتجاه، وفي عدة دول عربية…
من زاوية أخرى… لدى الحكومات العربية اليوم فرصة مهمة، ليس فقط لتشتغل بالسياسة، بل لتعزز من الانخراط العام في الفعل السياسي، ويعتمد ذلك على عدم تكرار أخطاء الماضي، فـ “السياسة العربية” في طور ولادة ثانية، وبإمكان الحكومات أن تضمن يسرها، وأن يكون المولود صحيحاً معافى، من خلال مأسسة العمل المدني –الشبابي خصوصاً، واحتضانه وتوسيع مجالاته وحدوده، بدل قمعه والحد من تأثيره. قد يرى البعض أن كلامي هنا طوباوي، فلا أحد يتخلى عن السلطة في العالم العربي وبالتالي لن يسمح لغيره بالمشاركة في السياسة، وهذا رأي فيه من الصحة الكثير في حال استمر ربط العمل السياسي بمعنى الحصول على السلطة وحصرها بها. بينما الواجب توسيع هذا المفهوم مرة أخرى والتركيز أيضاً على العمل السياسي الذي يشمل كل أجزاء المجتمع؛ هويته واقتصاده وخدماته وقوانينه وبنيته الاجتماعية والعلاقات والديناميات بين مكوناته، فإنشاء المعارض أو الحدائق أو تطوير العملية التعليمية، أو تشكيل المنتديات بأنواعها وغيرها الكثير والكثير من الأنشطة… هذه كلها سياسة يمكن للجميع مزاولتها والانخراط فيها بالاشتراك والتعاون مع السلطة وليس بالمواجهة معها.
وفي المقابل يجب أن تكون السلطات بدورها مرحبة ومتعاونة في تعزيز كل ذلك ودعمه.
لقد جُربت أنماط كثيرة من “السياسة” في العالم العربي، وأثبت معظمها فشلاً ذريعاً، لذا صار التغيير واجباً ينبغي الإقبال عليه طواعية قبل أن يفرض نفسه بالإكراه، وهذا يستدعي الاستفادة من أفكار الجميع، سواء أكانت السياسة اختصاصهم، أم كانوا من المهتمين المطلعين القادرين على العمل السياسي، وبدل تنحية هؤلاء وإهمالهم يجب البحث عنهم ودعمهم واستشارتهم… ومن دون ذلك سنظل كعرب –شعوباً وحكومات– منشغلين دائماً بالسياسة وغير مشتغلين بها، ما يعني أن الآخرين سيصنعون لنا سياستنا وسنظل دائماً متأثرين منفعلين، بدل أن نكون مؤثرين فاعلين.
نقلاً عن النهار العربي