كتب – كريم محمد
أشار الفيلسوف السلوفيني، سلافوي جيجك، ذات مرّة إلى أمر طريف يعمل في المجتمعات المعاصرة، وهو أنّ الحقّ المركزيّ في المجتمعات الرأسماليّة المتأخرة للأفراد -الذين لديهم نوع ممّا يسمّيه جيجك “البربريّة بوجه إنسانيّ”- هو حقّ “ألّا يُضايقوا”؛ إنّهم أفراد يحترمون الآخر، لكنّهم وهم يفعلون ذلك يقولون إنّ الآخرين عليهم ألّا يتطفّلوا على فضائي الخاص؛ فهم يضايقونني برائحتهم، وطبخهم، وألعابهم. هؤلاء الأفراد، يقول جيجك، قد يقفون مع السّود وحقوقهم، لكنّهم غير مستعدّين بتاتاً للإصغاء -مثلًا- إلى موسيقى الرّاب.
فكما، يقول جيجك، نجد سلسلة من المنتجات المجرّدة من خاصيّتها المؤذية: قهوة بلا كافيين، بيرة بلا كحول، وهلمّ جرّا؛ فإنّ جيجك ههنا يلفت نظرنا إلى منتج جديد في المجتمعات الرأسماليّة الحالية، وهو منتج “الآخر دون آخريّة” (Other without Otherness). فنعم نحن نقبل بالهجرة، نقبل بالآخر، لكن بلا آخريّته، عليه أن يأتي ويحترم “معاييرنا” -والتي غالباً ما يصفها الغرب بأنّها معايير “كونيّة”- وأعرافنا، أو، كما يقول جيجك نفسه “الآخر منزوع الكافيين الذي يرقص رقصات فاتنة والذي يمتلك مقاربة كليانيّة للواقع سليمة بيئياً”.
تفيدنا إشارة جيجك في تبصّر العمل الإرهابيّ الأخير الذي أودى بحياة تسعة وأربعين شخصاً مسلماً، على الأقل، في نيوزيلندا على يد شخصٍ أوروبيّ أبيض. فقد أدّى التصعيد في الخطاب اليمينيّ إلى التركيز على فكرة “الهويّة القوميّة” التي تنظر إلى المهاجرين بمثابة تهديد بالنسبة إليها. إنّ كون المهاجر يمارس طقوسه وشعائره، وحريّته ببساطة، هو تهديد على ما يَعدّه الخطاب اليمينيّ -الذي مارس كثيراً من العنف- هويّةً قوميّة.
يرتبطُ الخطاب اليمينيّ الذي أدّى إلى تصعيد ظواهر وشخصيّات مثل هذه ارتباطاً وثيقاً بفكرة النقاء، والهويّة النقيّة، ورهاب الإسلام والمسلمين. فلا يمكن تصور الهويّة الوطنيّة إلّا بالتخلّص من الغرباء، المهاجرين. يقوم الخطاب اليمينيّ بتوصيل هذه الأفكار عبر بلاغة شعبويّة؛ حيث يتمّ تصوير المهاجرين كخطر على الاقتصاد، وأنّهم يسرقون الخير الأوروبيّ، كما أنّهم يقومون بما لا يتماشى مع هويّة الغرب العلمانيّة.
إرهابيّ.. أم شخص مُغوى به: تناقض الغرب
دائماً في الأحداث الإجراميّة التي نحياها، نجدُ أنّ هناك ثيمة نفسيّة تابعة للتعليق على ما يجري؛ فعندما يقوم أبيض أوروبيّ أو أمريكيّ بأفعال ضدّ السّود أو المسلمين أو غيرهما، غالباً ما يُستدعى مفهوم “الإغواء” بشكل صريح أو ضمنيّ. بينما إذا قام مسلم، أو أسود، بفعل مماثل غالباً ما يتمّ استدعاء مفهوم “الإرادة”. السرديّات اليمينيّة تقوم على سلْب فكرة الإرادة عن الشخص المُغوى، سواء أكان هذا الإغواء ذاتويّاً، أو من طرف خارجيّ. بينما الإرادة لا إغواء فيها، إنّها واضحة، وعلنيّة، وذاتيّة جداً، ونابعة من تصوّر ماهويّ وعابر لأيّ شرط، ومحتّم عليها بأن تقوم بهذه الأفعال.
لا أريد أن أُلمِحَ إلى فكرة التناقض لدى ما يمكن بكثير من الحذر تسميته باسم “الغرب”، فليس هذا المعنيّ هنا. المعنيّ بدرجة أكبر أنّ اللاأوروبيّ دائماً ما يُصوّر كشخص مسلوب الإرادة، وأن اللاأوروبيين يعيشون في دول غير ديمقراطيّة بسبب إرادتهم المستلبة، سواء من سلطة أو من دين. بينما الأوروبيّون والأمريكان لهم إرادة، سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة. اللاأوروبيّ في بلده، هكذا تمضي السرديّة الغربيّة، هو مسلوب الإرادة تماماً، بينما الأوروبيّ ذو إرادة. وقد بررت الولايات المتحدة لنفسِها الأعمال الكولونياليّة والوحشيّة بغاية إرجاع الإرادة للشرق أوسطيين.
بينما عندما يتعلّق الأمر بحادث إرهابيّ، فإنّ المُعادلة تُقلب. يُوسَم اللاأوروبيّ بأنّه ذو إرادة، والأوروبيّ بأنّه شخص مُغوى. وبالتالي، فإنّ الأخوين كواشي -الفرنسيين- هما ذوا إرادة لأنّهما يتبعان الدين، ويقتلان تحت رايته، بعيداً عن آراء المسلمين في فعلهما، وعن وجهة نظر التقليد الذي أتيا منه في ذلك الأمر؛ لأنّهما خاضعان لقوّة عليا، لا أدري ما هي، لكنها حسب السرديات الغربيّة، هي قوة الدين، والنصوص، وداعش. أمّا قاتل المسلمين الأبيض، فهو مُغوى. ولا بدّ من معالجته، أو حبسه، بينما “الإرهابيّ المسلم” لا بدّ من القضاء عليه بالموت.
لا يعنيني الحكم القضائيّ. ما أناقشه هو كيف تلعب المنظورات الثقافيّة في تصوّراتنا. لكن ليست الثقافة وحدها ههنا. ففكرة الإغواء نفسها فكرة برجوازيّة، ذات شق اقتصاديّ. فالمتعلّم، والأبيض، هو لا يريد، من حيث المبدأ، سوى السلام المزعوم. وعندما ينجرّ إلى ذلك، فإنّه يُغوى من أطراف أخرى. فهناك تأبيد لفكرة ثقافيّة واقتصاديّة واضحة لا مراء فيها.
من الاندماج المستحيل إلى القتل علناً
في الحقيقة، فإنّ الحادث الإرهابيّ في نيوزيلندا يفتح التساؤلات حول مسألة تمثيل المسلمين في الدول الغربيّة، ويثير إشكاليّات متعلّقة بماهية هذا التمثيل نفسه، وما يعنيه، وما يترتّب عليه من تحويل لوجهات النظر الغربيّة تجاه المسلمين في الغرب، وأيضاً لرؤية المسلمين هناك لهويّتهم الدينيّة. ففي عالمٍ جامح نحو الهويّات، يغدو التمركز حول فكرة الأنا والهويّة قاتلاً، لا لأنّ الهويّة تقتل بحدّ ذاتها، وإنّما بسبب التسييس الناتج عن التوليف بين القوميّ والدينيّ.
لقد طُرحَت مسألة المسلمين في الغرب على أنّه سؤال “الدمج”، باعتبار أنّ دمج المسلمين في البيئة الغربيّة هو الحل “المناسب” لعدم التمييز ضدّهم. لكن بعد عقودٍ من الجدال حول الدمج، يبدو أنّه لم يعد الحل. في مسألة الاندماج، كان هناك طرحان أساسيّان: طرح يحاول تقديم صورة عن الإسلام باعتباره مرناً يمكن دمجه في البيئة العلمانيّة (الموصَّفة باعتبارها غريبة عنه)، وطرحٌ آخر يقضي بالتنافي المطلق بين الإسلام -والمسلمين من ثمّ؟- والغرب العلمانيّ. الطرح الأخير بالتحديد روّج له اليمينُ على مدار العقود الماضية. فقد آمنَ اليمين -وقطاعٌ من اليسار- في أوروبا بأنّ لأوروبا هويّة علمانيّة كوّنتها عبر مسيرة نضال ضدّ الدين منذ القرن السادس عشر، وهي الهوية التي تُوجّت في القرن الثامن عشر بالتاج العلمانيّ الأصيل. وبالتالي، فالإسلام بمفهومه عن الذات والعبادة والعلاقة بين الخاص والعام غريب عن هذه البيئة المُعلمنة. وبالتالي، وفقاً لهذا الطرح، المسلمون عليهم أن يعودوا من حيث أتوا.
يُشير الأنثربولوجيّ طلال أسد في كتابه “تشكّلات العلمانيّ” إلى أنّ مشكلة المسلمين في أوروبا غير متعلّقة بمشكلة الاندماج، وإنّما بتصوّر الأوروبيين أنفسهم لما تعنيه ماهيّة “أوروبا” بالنسبة إليهم. حيث يتمّ تخيّل أوروبا باعتبارها ذات هويّة علمانيّة، مشتقّة من الجذر المسيحيّ، وبالتالي فمَن هم خارجها ذوو هويّة ليست مغايرة، بل يمكن، كما نرى في الخطاب اليمينيّ، أن تكون مهدّدة لهذه الهويّة. وبالتالي، يرى طلال أسد أنّ أوروبا، كما هي عليه اليوم، لا يمكن بحال أن يتمّ تمثيل المسلمين المهاجرين إليها (الأفارقة في فرنسا، الأتراك في ألمانيا، إلخ …)، لا لأنّ المسلمين تابعون لدين منغلق -كما يصوّرهم الخطاب اليمنيّ- لا يساعدهم على الاندماج، ولكن لأنّ هويّة أوروبا اليوم رُسِمت على أساس قوميّ مدموج بالجذور اللاهوتيّة للمسيحيّة التي علمنتها المسيحيّة، وبالتالي غدا آخرو أوروبا غير قادرين على الاندماج في صلب هذا المكوّن اليهو-مسيحيّ للدول الغربيّة العلمانيّة.
يقول أسد في حوار مهمّ مع جدليّة بعنوان “هل ينتمي المسلمون في الغرب؟”: “ينما يتحدث الناس عن “مشكلة المسلمين” في الغرب، فإنّه للشكوى من حقيقة أنّ المسلمين لم “يندمجوا”. هناك القليل جدّاً من المناقشات الجادّة حول ماذا يعني أن تكون “أوروبيّاً”، وماذا يعني أن تكون فرنسيّاً، أو بريطانيّاً، أو أيّ شيء، وماذا تعني بالضبط “العلمانيّة” للدين عموماً وللإسلام خصوصاً في أوروبا. ويُنظر للمشكلة كالعادة دائماً إمّا: يجب علينا أن نبذل جهداً لإدماجهم، وإمّا: إنّه ذنبهم كونهم لم يندمجوا؛ وذلك لأنّهم تابعون لدينٍ منغلق، ومن ثمّ إلى القيم التي تتعارض، بعمقٍ، مع مجتمعنا المتساوي والعلمانيّ”.
وغالباً ما تُقدّم حلول أحاديّة وتكون خاصّة بالمسلمين في أوروبا. بيد أنّ هذه الحلول تقع دائماً في مشكلة تجنيس المسلمين باعتبارهم كياناً واحداً. في الواقع، المسلمون مختلفون باختلاف الشرط التاريخيّ، والمكان، والبيئة التي يعيشون فيها، مثلهم مثل أيّ جماعة بشريّة أخرى. المشكلة في هذه الأطروحات هي عمليّة الجوهرة والتشييء التي تحصل لكلّ من المسلمين والإسلام. حيث يتمّ تصوير الإسلام كنظام ماهويّ مجرد له طبيعة معيّنة أصيلة وينزّلونها على المسلمين في كلّ سبيل. هذا الفصل المطلق بين المسلمين والإسلام هو ما ينتج الكوارث في واقع الأمر، لا ما يحلّها.
وأيضاً، لقد طرح الحادث الإرهابيّ في نيوزيلندا مسألة العنف باعتبارها بنية كامنة في الرأسماليّة المتأخرة التي نحياها؛ فاليمين الذي يتقدّم كالنار في الهشيم بخطابه الشعبويّ الذي يمسّ الحساسيّات هو ما يغذّي هذا الإرهاب الأبيض، الذي يُطعَّم بالهويّة التي سبّبها التفاوت الناجم عن الرأسماليّة -ذلك الشرّ الذي لا يمكن دحضه إلّا بتغيير بنية العالم الاقتصاديّ والسياسيّ نفسه.
المصدر حفريات