جاد الكريم الجباعي
كاتب سوري
يبدو أنّ التناقض بين التقليد والحداثة لا يزال يخترق جميع مجالات الحياة في بلادنا؛ يُعبَّر عن هذا التناقض ثقافياً بتناقض العقل والإيمان تارة، وتناقض العلم والدين تارة أخرى، أو بتناقض الحرية والمقدس، على نحو ما تناوله المفكر العربي المرموق، فهمي جدعان (1942 – )، في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه: “الحرية والمقدس”. استمرار هذا التناقض على مدى قرنين من الزمن، يكشف مدى قصورنا الذاتي؛ إذ لا ننفك نطرح الأسئلة نفسها ونجيب عنها بالإجابت نفسها، وقد يفسر لمَ لا تحتفي مجتمعاتنا بالحرية إلا في يوم دفنها. على نحو ما حدث في العراق منذ عام 2003، وما حدث في بلدان الربيع العربي منذ عام 2011، وما يحدث اليوم في السودان والجزائر.
فقد تبين أنّ الحرية ليست نقيض العبودية أو التبعية، كما يقول القاموس، وليست نقيض الاستبداد، كما نتوهم1 ، بل هي نقيض السلطة، منذ فجر التاريخ؛ لأن مبادئ إنتاج السلطة وآليات اشتغالها وأشكال ممارستها، في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، هي التي تحدد مدى تمتع الأفراد بالحرية، في أي مجتمع، وتحدد، من ثم، طبيعة الأعراف والشرائع والقوانين، ومعايير المسؤوليات القانونية والأخلاقية، وتحدد أشياء أخرى كثيرة.
فهل ثمة رابطة أو علاقة ضرورية بين المقدس والسلطة؟
تتناول هذه المقاربة ما تسميه المصادرة الرئيسة 2 في علاقة الحرية بالمقدس، عند فهمي جدعان، تقول المصادرة: “أحدثت الحداثة وقائع جديدة. أقصت الديني، ونصبت العقل إماماً وحاكماً، وأقرت حقوقاً للإنسان، وجعلت من حق الحرية في الاعتقاد والتعبير حقاً مقدساً”.
هذا عن الحداثة، بوجه عام، كما يقرر النص، ولكن هذه الأحكام القطعية على الحداثة، مقصورة أو تكاد تكون مقصورة على مواطن الحداثة الأصلية.
في مواطن الحداثة؛ أي في الغرب، يضيف الدكتور جدعان، “استخدم “الفكر الحر” هذا الحق استخداماً مطلقاً.
وفي مجراه المرتبط بسلطة “الوحي” وبمؤسسة الكنيسة قصد هذا الفكر، مع فولتير، إلى الإجهاز على “الدجال” ونعت المقدس الديني وأهله بأقذع النعوت وأعنف الأقوال، وأذيعت المصنفات التي تؤنسن المسيح أو تضعه موضع الشك أو الازدراء والسخرية، وحفلت الأدبيات الغربية بما لا عد له ولا حصر من الكتابات المضادة للألوهية وللدين وللمقدس”3 .
يعترض الدكتور جدعان على الحرية في مواطن الحداثة؛ وليس لهذا الاعتراض من معنى إلا إذا كان تحذيراً من شرور الحداثة وأخطار الحرية على مجتمعاتنا العربية والإسلامية أو دفاعاً استباقياً عن المقدس الإسلامي بالهجوم على الحرية في مواطن الحداثة.
المصادرة والبرهنة على صحتها بنعت المقدس الديني وأهله بأقذع النعوت وأعنف الأقوال، في مواطن الحداثة … إلخ، تنطويان على أحكام عامة، مطلقة وقطعية، كالقول: “الحداثة أقصت الديني”، في حين أنّ الحداثة أقصت الديني من الحقل السياسي فقط، مثلما أقصت الملكية الخاصة من الحقل نفسه، لا من الحقل الاجتماعي ولا من الحقل الثقافي ولا من الحقل الأخلاقي؛ إذ المجتمعات الحديثة تظهر كلّها تديناً هادئاً ومتسقاً مع إيقاع الحياة الحديثة، بل يقال إنّ المجتمع الأمريكي، على سبيل المثال، من أكثر المجتمعات تديناً. وللكنيسة مكانة مرموقة وتأثير في الفضاء الأوروبي، وللمساجد الإسلامية والكنس اليهودية حريتها وتأثيرها أيضاً.
هذا من جانب، من جانب آخر، إنّ جعل العقل إماماً لا يضع العقل في تناقض مطلق مع الدين أو مع المقدس، (بخلاف تناقض العلم والدين)؛ إذ للحداثة مقدساتها أيضاً، كالوطن والأمة والدولة وحقوق الإنسان والحرية والمساواة والعدالة والعمل (العمل عبادة)، وسائر المثل أو القيم التي تتبناها البشرية قاطبة، كالحق والخير والجمال، لكن مقدسات الحداثة ليست مفارِقة أولاً، وليست أسمى من الإنسان ثانياً، وذات طابع كوني عام ثالثاً.
ثم إنّ هنالك أصواتاً خافتة في الثقافة العربية، وفي التاريخ العربي، نادت بجعل العقل إماماً، لكنها نُبذت وكُفِّرت، كأصوات المعتزلة أو كأبي العلاءالمعري (973 – 1057م) القائل:
كذب الظنُّ لا إمام سوى العقل مشيراً في صبحه والمساء
فإذا ما أطعـتــه جلب الرحمة عند المسير والإرســـاء
إنما هذه المذاهب أسبـــابٌ لجذب الدنيا إلى الرؤسـاء
أجل، هنالك من دعا، في الثقافة العربية قديمها وحديثها وفي التاريخ العربي قديمة وحديثه، إلى وضع العقل في مقابل الظن والرجم بالغيب ونسج الأوهام ومقابل الشعور بوجه عام. والظن، في نظر المعري، هو جوهر المذاهب قاطبة، لا جوهر الدين. فالمذاهب “أسباب”، أدواتٌ ووسائلُ لجذب الدنيا إلى الرؤساء، فهل ثمة ما هو أسوأ من جعل المقدس أداة ووسيلة؟!
والأهم، في هذا السياق، ليس علاقة العقل بالإيمان، بل علاقة العقل (المعرفة والإدراك والوعي والفكر والعمل… إلخ) بالواقع.
فلم يخرج العرب من التاريخ، بتعبير فوزي منصور، إلا بمحاصرة العقل بالتعييب والتأثيم، وخنقه بالمقدسات والمحرمات، علاوة على القمع الصريح.
وإلى ذلك، إنّ المصادرة الرئيسة، التي أشرنا إليها، تقول هي نفسها: إن الحداثة “جعلت من حق الحرية في الاعتقاد والتعبير حقاً مقدساً”، ومن البدهي أنّ الحق في الاعتقاد والتعبير، ليس مقصوراً على أهل العلم الوضعي والقانون الوضعي، وليس حق فئة من الناس دون غيرها، وليس امتيازاً للعلمانيين على اللاهوتيين: حق العلماني مساو لحق اللاهوتي، وحق الكنيسة مساو لحق الجامعة، والأهم أنّ حق المرأة مساو لحق الرجل،
وحقوق الأطفال مصونة وتحظى باهتمام خاص، وكذلك حقوق ذوي الحاجات الخاصة (التي تعدها ثقافتنا عيوباً)، وهذه كلها وغيرها كثير من تجليات البعد الإنساني الذي يميز الحداثة، والذي تفتقر إليه ثقافتنا ومجتمعاتنا افتقارها إلى الإنسانيات أو العلوم الإنسانية، وهذه وتلك؛ أي المجتمعات والثقافة، لا تُلقيان بالاً إلى أنّ الإنسان هو الذي يقدِّس ويدنِّس، فتضعان المقدس في مواجهة الإنسان، وتدنّسان الحرية، بوجه عام، وحرية الفكر والضمير، وحرية الرأي والتعبير، بوجه خاص.
يرى جدعان أنّ “آثار الحداثة الغربية أدركت حدود الفضاءات العربية والإسلامية وعبرتها. لكن “العقلانية” التي حملتها ظلت، في هذه الفضاءات، ذات حدود وقيود. وظل المقدس في الغالب الأعم مبجلاً محترماً، قصارى ما لحق به الدعوةُ إلى فصل الدين عن الدولة، و”شُبَهٌ” هنا وهناك، وتجاوزات طفيفة، يغلب عليها نشدان الإثارة وطلب انتشار الصيت والصوت.
ثم ما جاء من عقر دار الحداثة وما بعدها ومن فضاءات “الحرية المقدسة”. وذلك ما وضع الحرية والمقدس في (مدينة الإسلام الكونية) وضعاً جديداً”4 .
من المعروف أنّ الدولة مجال عام، أو فضاء عام، وأي دين من الأديان، هو مجال خاص أو فضاء خاص بأتباعه فقط، فكيف يمكن أن يكون استقلال الدين عن الدولة أو العكس مساساً بالمقدس، وهل يسوغ اعتبار العلمانية شبهة، مثل “شُبَه” (أخرى) هنا وهناك، وتجاوزات طفيفة يغلب عليها نشدان الإثارة وطلب انتشار الصيت والصوت”؟!
المقدس، كما يعرِّفه جدعان، هو “المفارق، المتعالي أو العليُّ السامي الطاهر …، والمدنسُ هو المحايث، “كل ما هو محايث”، (جدعان، ص 22)، أي كل ما هو أرضي، دنيائي، بتعبيره؛ هذه قسمة حدِّية (متطرفة)، تجيز لنا أن نتساءل: ما حكم الحرية المحايثة، الأرضية، أو الدنيائية؟ وما حكم المساواة والعدالة؟ ما حكم المواطنة في دولة دستورية حديثة، وما حكم الحقوق والخيرات الاجتماعية والقيم الجمالية .. إلخ؟ هل الجمال (المحايث) مدنس وهل المحبة مدنسة؟!
نحن نعتقد أنّ العقل محايث، هو عقل الفرد الإنساني؛ أيِّ فرد يفكر، ويعمل، ويجدد، ويبتكر، ويبدع، في أي مجال من مجالات الحياة، والحرية محايثة، والدين محايث، هو دين في الدنيا، ودين لأهلها، متجذر في حياتهم الأخلاقية، لا للملائكة والملأ الأعلى.
يجيبنا جدعان عن سؤال الحرية والقداسة بالتفريق بين “حرية وادعة وآمنة، وحرية خارقة لكل الحدود” (ص 24)، في حين أن الحرية والوداعة على طرفي نقيض، حتى ليمكن القول إنّ المجتمعات العربية الراكدة هي مجتمعات الحريات الوادعة، أو مجتمعات وديعة، بكل معاني الكلمة، بل ذليلة للاستبداد والطغيان والتسلط. ماذا تعني قداسة المقدس إذا لم يكن مناهضاً للطغيان والتسلط والاستبداد والإذلال والإفقار والتهميش وثائراً عليها؟!
يعتقد الدكتور جدعان أنّ خرق المقدس يصدم مشاعر المؤمنين ويلحق بنفوسهم أذى لا حدود له، وبأن قداسة المقدس ذات طابع شامل مطلق يتعين احترامه، وأن من شأن الاعتداء على المقدس أن يلحق ضرراً بالسلم الاجتماعي، وهذا ما يسميه “الموقف الإسلامي”، وفي مقابله “الموقف الغربي” المساند لحرية التعبير، في جميع أشكالها، (والذي) يعتبر أن تقييد حرية التعبير يهدم الأسس القاعدية للنظام الديمقراطي، وأن فرض “الجماعة الدينية” لقيمها على المجتمع وعلى الدولة يهدم الأساس القاعدي للعلمانية، أي تحرير الدولة من أي التزامات دينية، فضلاً عن أنّ المقدس الديني ليس ذا طبيعة كونية شاملة”. (ص 29)
وإلى ذلك، كيف يستقيم أنّ الشخص والعقيدة كيان واحد، فيستنكر الدكتور جدعان ما جاء في افتتاحية جريدة لوموند، التي ميزت الشخص من الفكرة أو العقيدة، إذ قالت الافتتاحية: “إن الأشخاص لا الديانات هم الذين يجب أن نضمن لهم الحماية من كل أشكال التمييز” (ص 29)، ومن المؤكد أنّ كاتب الافتتاحية يعني الديانات جميعاً بما فيها المسيحية، على اختلاف مذاهبها.
الفكرة أو العقيدة محمول متغير لحامل متغير، هو الإنسان، فقد يتخلى الشخص عن فكرة أو عدة أفكار أو عن منظومة أفكار كاملة، وقد يختار التحول من دين إلى آخر، وقد يختار ألا يكون متديناً. الإنسان هو الذي يستحق الحماية، بالفعل، لا الفكرة ولا العقيدة.
الفكرة تحمي نفسها أو لا تحميها، ما دام ثمة عقل وعقلاء وعاقلات ومعايير عقلية وأخلاقية، والعقيدة كذلك. لا يحتاج الدين إلى من يحميه أو يدافع عنه، فما بالك بالنبي أو الله!
آن أن نقول: العقيدة ليست أهم من الإنسان، وليست أسمى منه. المؤمنون، لا الأيديولوجيون، يؤمنون أنّ الله كرم الإنسان، واستخلفه في الأرض، وحمله مسؤولية إنسانيته، قبل أن ينتحل الإنسان أي عقيدة، بوحي أو بغير وحي.
وللحديث صلة
هوامش:
1 – نفترض أن نقيض العبودية التاريخي هو المواطنة المتساوية، والنقيض التاريخي للاستبداد هو الديمقراطية.
2 – اعتبرنا الأطروحة المشار إليها مصادرة رئيسة لورودها في مقدمة الكتاب، التي يفترض أن الكاتب يحدد فيها إشكالية بحثه وافتراضاته الرئيسة. وما من شك في أن العلاقة بين الحرية والمقدس علاقة إشكالية، تحتمل تأويلات شتى، قد تكون بعضها متناقضة، على نحو ما يكون التناقض بين القوى الاجتماعية والسياسية في المجتمع المعني، فتكتسب التأويلات، لذلك، طابعاً أيديولوجياً.
3 – فهمي جدعان، الحرية والمقدس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2009، ص 21.
4 – جدعان، ص 21.
نقلاً عن حفريات