كريتر نت – متابعات
لنعترف بأن الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان هو وريث لثلاثة أبعاد:
ـ بُعد استثمر بالإسلاميين حتى بات ملجأ لهم، يبيع ويشتري، يؤم الصلاة فيهم حيث يشاء ويكبّلهم حين يشاء، وبُعد يمتد إلى “الناتو” فيحرس قاعدتهم في انجرليك، فيساوم الناتو متى شاء وبالكيفية التي يشاء، والبعد الأوراسي الثالث، وفيه يكون على الحياد متى يشاء ويعارك متى شاء، وكان استمد بُعده هذا من عصمت إينونو يوم وقفت بلاده على الحياد خلال الحرب العالمية الثانية، وقد استطاع الموازنة بين دول الحلفاء و المحور، وبدوره كان عصمت اينونو قد سار على درب “المعلّم المؤسس “كمال أتاتورك” والأبعاد الثلاثة تطهر اليوم وتتجلى في موقع تركيا من الحرب الروسية الأوكرانية.
إن عملية الموازنة التركية المتواصلة اليوم نابعة من الحاجة والاختيار على حد تعبير جنكيز تشاندر، ففي وقت كان فيه موقف تركيا المبدئي منذ ضمّ شبه جزيرة القرم عام ٢٠١٤ و الغزو الروسي لأوكرانيا، موالياً لكييف، فلم تعترف تركيا بضمِّ شبه جزيرة القرم أو انتهاك سيادة ووحدة الأراضي الأوكرانية.
وفي خضم تصاعد التوترات بين موسكو والعواصم الغربية، قام الرئيس رجب طيب أردوغان بزيارة كييف قبل نحو ثلاثة أسابيع من الغزو الروسي، ووقَّع اتفاقيات تعاون عسكري وتجاري مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. ورغم ذلك، لا غنى لتركيا عن روسيا، فهي تعتمد على الأخيرة من ناحية استيراد الطاقة والمنتجات الزراعية، وخاصة الحبوب و زيت دوّار الشمس، علاوة على ذلك يعتمد قطّاع السياحة في تركيا على السُيّاح الروس.
في نفس الوقت تعمل روسيا على إنشاء أول محطة للطاقة النووية في تركيا بتكلفة ٢٠ مليار دولار، وتستورد تركيا من روسيا نحو ٤٥ ٪ من الغاز الطبيعي لتغطية حاجة السوق المحلية و نحو ١٧ ٪ من المشتقات النفطية الأخرى، كما كرَّرت تركيا في عدة مناسبات بأنها لن تنضم إلى الدول التي فرضت عقوبات على روسيا.
الموقف التركي هذا نابع عن سياسة أردوغان التي تبنتْ نهج الاستقلالية الإستراتيجية وهو تفسير مُتخيل لسياستها الخارجية الأوروآسيوية و التي اكتسبتْ زخماً بعد عام ٢٠١٦ ويمكن اعتبارها ابتعاداً بشكل تدريجي عن الغرب.
الإمساك بعصا التوازن هذا، وفي الظرف الدولي الراهن، كما المشي على حبل مشدود في ألعاب السيرك، والعالم وإن بدا سيركًا في بعد من أبعاده، غير أنه لابد ويسأل اللاعبين:
ماهو تموضعك الآن؟
وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين حذرت من تداعيات تقويض العقوبات ضدَّ روسيا متوجهة بشكل أساسي إلى الصين و بشكل غير مباشر إلى تركيا، ففي نهاية المطاف سيتوجب على تركيا الاختيار بين روسيا أو الغرب، و لكن نظراً لقوة العامل الأوروآسيوي داخل مركز صنع القرار التركي و التيار المؤيد لروسيا في الدوائر الموالية للحكومة ليس من المؤكد أن تقف تركيا إلى جانب حلفائها الغربيين ضدَّ روسيا.. معظم التوقعات تشير إلى ذلك.
مع بداية اندلاع الحرب استضافت تركيا عدداً كبيراً من الشخصيات الدولية المؤثرة مثل الأمين العام لحلف شمال الأطلسي و المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز. علاوة على ذلك، فقد تمت الإشادة بتفعيل تركيا لاتفاقية “مونترو” التي تمنع بموجبها دخول السفن الحربية من المضائق التركية إلى البحر الأسود.
وبرزت أهمية اتفاقية “مونترو” بعد غرق الطَّراد الروسي “موسكفا” وعدم استطاعة روسيا إحضار سُفنها الحربية إلى البحر الأسود، خاصة وأنها تمتلك ثلاثة طَّرادات في ترسانتها العسكرية، وقد عززت الحرب عن غير قصد الجغرافية السياسية الشائكة لتركيا.
الدورية البريطانية “ذا سبيكتاتور” نشرت على غلافها رسماً كاريكاتورياً لأردوغان كسلطان بعنوان: “سبب تدهور تركيا” وكتب أوين ماثيوز :” إن أردوغان يُسابق الزمن لإصلاح العلاقات بين اثنين من أهم شركائه التجاريين وخاصة الولايات المتحدة، كما أن دعْمَ أردوغان لحلٍّ يحفظ ماء وجه بوتين سيكلِّفه باهظاً في علاقته مع حلفائه في حلف شمال الأطلسي”.
واليوم ماهي الاحتمالات التي ستواجه تركيا؟
في حال بقي الغرب وحلف شمال الأطلسي متحديْن فلن تستطيع تركيا الصمود في النأي بالنفس عن فرضْ عقوبات ضدَّ روسيا، ولكن إنْ حدث شقاق داخل التحالف الغربي سيدفع بأردوغان إلى الاستمرار في تبني مفهوم الأوروآسيوية باعتباره شكلا من أشكال الاستقلال الإستراتيجي.
المرجح أن تتصدع وحدة الغرب، فاليورو إلى تراجع والبرد قادم، وأوروبا المرفهة لن تتحمل عواقب التضخم والخسائر التي رتبتها عليهم الحرب الروسية الأوكرانية.
ـ المرجح أن تذهب أووروبا لمخاطبة زيلنسكي بالقول:
ـ إذهب أنت وربك وحاربا.
عندها سيقف أردوغان على منصات الخطابة مخاطبًا الأتراك بالقول:
ـ لقد كنت على حق.
المصدر “مرصد مينا”