حسن أبو هنية
تفصح الطرق العسكرية والأمنية والسياسية والقانونية التي يجري من خلالها إقصاء الإسلام السياسي عن المجال العام في العالمين العربي والإسلامي؛ عن إشكالية الدولة القومية التي فرضتها الإمبريالية الغربية كنظام وشكل وحيد للاجتماع السياسي في العالم الإسلامي على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. وقد أدت إزاحة الشريعة الإسلامية ومركزة القانون الغربي إلى توتر غير مسبوق بين الانتماء الإسلامي والانتماء الوطني، حيث جرت عملية إعادة تشكيل مفهوم المجتمع الديني في البلدان الإسلامية، على أسس هوياتية وطنية مستحدثة، من خلال عملية تأميم الدين في سياقات علمانية مشتبهة وسلطوية.
ظهر الإسلام السياسي الذي تجسده الحركات الإسلامية، التي تؤمن بأن الإسلام -دينا وسياسة- في الحقبة ما بعد الاستعمارية، كرد فعل على هيمنة الدولة على الدين واحتكاره وإعادة تأويله وتفسيره، ولتأكيد السمات الإسلامية للدولة. فعندما تخلت بريطانيا وفرنسا وقوى أوروبية أخرى عن مستعمراتها في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، واجه قادة البلدان ذات السيادة الجديدة وذات الأغلبية المسلمة قرارا ذا عواقب هائلة: هل ينبغي لهم أن يبنوا حكوماتهم على أساس ديني إسلامي القيم، أم عليهم تبني القوانين الأوروبية الموروثة من الحكم الاستعماري؟ ويظهر بحث مارك فتحي مسعود التاريخي، أن القادة السياسيين لهذه البلدان الناشئة، اختاروا الحفاظ على أنظمة العدالة الاستعمارية بدلا من فرض القانون الديني، وهو ما سيؤدي إلى توترات وأزمات وصراعات لا تنتهي.
إن التحدي الذي يفرضه الإسلام السياسي، يمكن مقاربته من خلال النظر إليه باعتباره إطارا مفككا للاستعمارية على الصعيدين الأبستمولوجي والاستراتيجي حسب سلمان سيد، فالإشكالية الرئيسية للأنظمة ما بعد الاستعمارية العربية التي أقامتها وترعاها الإمبريالة الغربية مع الحركات الإسلامية، تقوم على أسس جيوبوليتيكية تتعلق بالاستقلالية والتبعية والتحرر، وتستند إلى رؤية معرفية مفككة للمركزية العرقية البيضاء.
فالحركات الإسلامية تتوافر في جوهرها على أجندة تؤسس لكينونة مناهضة لسياسات ومصالح الغرب، وجماعة “الإخوان المسلمين” التي تعد أهم الحركات الاجتماعية الدينية المحافظية في العالم العربي، تنشد الحفاظ على هوية المجتمعات الإسلامية وفك التبعية والتحرر؛ فحركات الإسلام السياسي نشأت كرد فعل على الاجتياح الكولونيالي والإمبريالي للعالم الإسلامي، الذي تزامن مع نشوء الحركة الصهيونية وتأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وعلى وقع صدمة انهيار وسقوط الخلافة الإسلامية (العثمانية).
وقد تطورت الإسلاموية كأيديولوجيا سياسية في إطار الدولة ما بعد الكولونيالية، وتشكُل الدولة الوطنية (العلمانية)، وبهذا أصبحت أهداف وغايات الحركات الإسلامية مناهضة للدكتاتورية والإمبريالية والصهيونية، من أجل استعادة “الخلافة” كرمز للهوية السياسية الدينية الإسلامية.
في هذا السياق حددت السياسة الدينية للدولة- الأمة في العالم العربي مسارات الإسلام السياسي وحدوده، إذ ترتبط مشاركة وهيمنة الإسلاميين وتمدد الإسلام السياسي وانحساره بالتحالفات التاريخية مع الأنظمة المحلية القائمة على المصالح الوقتية المشتركة، التي تعتمد بدورها على معطيات الظروف الاستراتيجية الدولية والتحولات السياسية المحلية، ومع تغيّر وتبدل تلك الظروف وتحولها، كانت تتبدل التحالفات. ففي حقبة الحرب الباردة شكل “العامل الديني” الاستراتيجية المعتمدة للولايات المتحدة والغرب للتحالف مع الإسلاميين، في إطار مواجهة الخطر الشيوعي، عبر مدخل محاربة الإلحاد الشيوعي.
سوف تتبدل علاقة الإسلام السياسي بالأنظمة السياسية المحلية مع تبدل البيئة الجيوسياسية الدولية، فبعد سقوط جدار برلين في عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك المنظومة الاشتراكية؛ تغيرت خطوط الخطاب الغربي حول الإسلام السياسي مرة أخرى، وأصبح ينظر إلى الإسلام كتهديد لنظام يُنظر إليه على أنه ديمقراطي ومسيحي، وهو ما انعكس على خطاب الأنظمة المحلية التي تبدلت نظرتها إلى الإسلام السياسي من حالة الحليف إلى وضعية العدو.
وقد بلغت هذه الدينامية على صعيد الخطاب والممارسة ذروتها عقب انتفاضات “الربيع العربي” 2011، إذ سرعان ما تحول “الربيع العربي” من فرصة سانحة للإسلام السياسي وطموحاته بالمشاركة في السلطة والحكم، إلى حالة ووضعية باتت فيها حركات الإسلام السياسي تسعى جاهدة إلى مجرد الحفاظ على شرعية بقائها ووجودها السياسي والقانوني والاجتماعي، وبات ينظر إليها كخطر وتهديد للاستقرار والأمن. ثمّ تحولت الخطابات الرسمية من تعريفها كجماعات وحركات وقوى معتدلة، إلى حركات ميسرة للتطرف والعنف في أحسن الأحوال، أو اعتبارها جماعات متطرفة عنيفة إرهابية، حيث صنّفت جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية في عدة دول عربية، وفي مقدمتها مصر والسعودية والإمارات، ولم يكن غريبا أن تدعم الولايات المتحدة والدول الأوروبية الثورة المضادة وانقلاب الأنظمة العربية الاستبدادية على الإسلاميين، تحت ذريعة الحفاظ على الاستقرار والأمن، وبحجة حماية قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
في نهاية المطاف، لم تفلح الأوجه المتعددة للإسلام السياسي باختراق منظومة سلطة الاستعمار الداخلي، فآثار الكولونيالية والإمبريالية وفعاليتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، لا تزال تهيمن على سياسات الأنظمة ما بعد الكولونيالية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافة، ولا تزال تتحكم في بناء وصياغة خطاباتها وتصوراتها وممارساتها. ومهما قولبت حركات الإسلام السياسي من أيديولوجيتها وخطاباتها وعدّلت من سلوكياتها وممارساتها، سوف تبقى تُعرَّف بالإسلام كدين وسياسة، وهو إسلام ينظر إليه دوما كنقيض للغرب يناهض المركزية الغربية البيضاء، وباعتباره كينونة تناهض ادعاءات الكونية والعالمية، ويتعامل معه كمشروع مفكك للاستعمار سياسيا وثقافيا.
إنّ الترابط بين الكولونيالية كبنية وما بعد الكولونيالية كحدث، يبرز أوضح ما يكون من خلال الاستراتيجيات والتكتيكات العربية المتبعة في التعامل مع الإسلام السياسي بأوجهه المتعددة، وذلك من خلال شتى آليات القمع والاحتواء: فالوجه الراديكالي للإسلام السياسي الذي تجسده الجهادية العالمية، يتم التعامل معه بالاستئصال الأمني والتدخل العسكري المباشر، ومن خلال تكوين تحالفات عالمية مع الأنظمة ما بعد الكولونيالية المحلية، والوجه الحزبي المحافظ للإسلام السياسي تسلط عليه المقاربات الإكراهية الأمنية والقانونية.
إن تبدل الظرف الجيوسياسي الدولي اليوم، وعودة منظورات التنافس بين الدول، خلق رؤية إمبريالية غربية جديدة، فالإمبريالية كشكل متطور من الكولونيالية بلغت ذروة العدوانية تجاه الإسلام والإسلاميين في المنطقة، وهو ما تجلى في بناء استراتيجية تقوم على تسليم قيادة المنطقة للمستعمرة الاستيطانية اليهودية، ومحو وإزالة وتصفية القضية الفلسطينية. فمنذ أن أنشأت الإمبريالية الغربية دولة “إسرائيل” على أنقاض فلسطين، وهي تقوم بوظيفة حارسة للإمبريالية في منطقة الشرق الأوسط.
ومن المعروف أن الإسلامية بأوجهها المختلفة مناهضة للإمبريالية والصهيونية، فالإسلامية اليوم هي من يقاوم الهجمة الاستعمارية في المنطقة، التي تقوم أنظمتها من خلال الاستعمار الداخلي للسلطة على ديمومة الهيمنة الإمبريالية وضمان الحفاظ على الصهيونية.
باتت متطلبات إعادة بناء الشرق الأوسط الذي اهتزت أركانه عقب ثورات “الربيع العربي” التي جاءت بالإسلاميين، تقوم على استراتيجية تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية وتطبيع وجود المستعمرة الاستيطانية “إسرائيل”، بل وترسيخ دورها القيادي المركزي الأمني الحراسي في المنطقة، من خلال نسج تحالفات مع الأنظمة العربية الاستبدادية ما بعد الكولونيالية، عبر رعاية اتفاقات السلام “الإيراهيمية”، وبناء تحالفات عسكرية مشتركة. وهي استراتيجية غربية طموحة تسعى إلى إدماج المستعمرة الاستيطانية اليهودية في نسيج المنطقة العربية الإسلامية، تحت ذريعة مواجهة خطر مشترك تمّ اختزاله بمقولة “الإرهاب” الإسلامي، الذي بات يكافئ مصطلح “الإسلام السياسي” وحركاته المقاومة بنسختيه السنية والشيعية، وممثليه في المنطقة المنظمات السنية المنبثقة عن أيديولوجية الإخوان المسلمين المسندة من تركيا، والحركات السياسية والمقاومة الشيعية المنبثقة عن أيديولوجية ولاية الفقيه المسندة من إيران.
خلاصة القول؛ إن الصراع على هوية الدولة والمجتمع في العالم العربي لم تكتب نهايته بعد، فقد بلغت الأنظمة الإمبريالية والصهيونية والدكتاتوريات ما بعد الكولونيالية ذروة ترابطها ووقاحتها وعنفها، وذلك لسبب بسيط؛ أنها تعيش لحظات شك حول ديمومة هيمنتها وبقاء وجودها.
والإسلامية اليوم بأصنافها كافة تعبر عن كينونة في المنطقة، تشكل بديلا لا منافس له لتفكيك الاستعمارية. ومع أطروحات صعود وأفول الإسلام السياسي في المجال العام، تتموضع الحكومة كفاعل رئيس في تحديد قواعد اللعبة السياسية، وبناء وإلغاء التحالفات الاجتماعية، وحدود وأطر الهيمنة الأيديولوجية، بما تملكه من سلطة سيادية قانونية وأجهزة أيديولوجية ومؤسسات تنفيذية. إذ ترتبط مشاركة وهيمنة الإسلاميين على المجال العام وتمدد الإسلام السياسي وانحساره داخل مؤسسات المجتمع المدني، بالتحالفات التاريخية مع الحكومة المنبنية على المصالح المشتركة، التي تعتمد على معطيات الظروف الاستراتيجية الدولية والتحولات السياسية المحلية، ومع تغيّر تلك الظروف وتحولها، تتبدل المعادلات كافة.
نقلاً عن عربي21