علي الصراف
قام طالب جامعي في مصر بطعن شابة رفضت الزواج منه وذبحها وسط الناس في الشارع.
هذا المشهد داعشي. إنه يدل على تفشي الوحشية الداعشية في المجتمع على نحو يفترض أن يثير الرعب، ليس بسبب الجريمة نفسها، ولكن بسبب طابعها “المشهدي”. ذلك لأنه يعني شيئا أبعد بكثير من تلك الجريمة.
القصة شغلت الناس، كما شغلت القضاء بطبيعة الحال. ووسط سلسلة طويلة من جرائم القتل التي تطال النساء، فإن التفنن في أعمال القتل أصبح ظاهرة تستحق أن تُستخلص منها النتائج.
المجتمعات العربية، على وجه الإجمال، تمارس أشكالا شتى من الداعشية، ضد النساء خاصة، تحت ستار “الشرف”. وهي في الغالب جرائم تُرتكب على أساس الشبهات، لا على أساس الأدلة. وتشكل “المشهدية” في أعمال القتل جزءا من فرضيات “الدفاع عن الشرف”. ذلك أن مرتكبي هذه الجرائم يتقصدون القيام بها علنا. وبطبيعة الحال، فإن القانون في العديد من الدول العربية ما يزال يوفر لهم الغطاء لتخفيف الأحكام. ما يجعل الذبح العلني هدفا قائما بذاته. سلوك إجرامي، ولكنه يقصد المشهدية، أو الاستعراض بها حصرا.
المحكمة التي حكمت بالإعدام على ذلك الطالب، طالبت “بتعديل تشريعي للسماح بالبث المباشر لإجراءات تنفيذ الإعدام”، قائلة إن ذلك يوفر رادعا عن تكرار جرائم مماثلة.
هذه المحكمة إنما قصدت أن تقدم مشهديتها الخاصة أيضا. إتاحة الفرصة للملايين من الناس لرؤية شخص يلفظ أنفاسه الأخيرة، مشهد مخيف. أو يفترض أن يكون كذلك. ولكن الراغبين بتقديمه نسوا شيئين:
الأول، هو أن دوافع القتل، داعشية الطابع، لا يشكل الخوف أو الرادع عاملا فعليا للحؤول دونها. معدلات جرائم القتل ضد النساء عالية، بخوف أو من دونه. الكثير من مرتكبي هذه الجرائم يسلمون أنفسهم إلى القضاء طواعية، من دون خوف، في دلالة على أن الدافع إلى القتل أقوى.
والثاني، هو أن مشاهد الإعدام تموت. أي أنها تترك أثرا لحظيا، ثم تنحسر. ليس من الطبيعة الإنسانية أن تعيش على مشاهد الموت. ما يجعل مشهد الإعدام مجرد استعراض دعائي لنظام اجتماعي لم يعرف كيف يعالج مشاكله.
الكثير من محطات التلفزيون العربية صارت، على سبيل التقليد المجرد للمحطات الغربية، تذكر تحذيرات من وجود “مشاهد” مؤذية في تقرير أو آخر، أو من وجود فلاشات إضاءة عالية.
هذه المحطات تنسخ التحذيرات من دون أن تلاحظ، أو حتى تعرف، ما هو الفرق بين مجتمعات تعلمت تحاشي المناظر الصارخة، وبين مجتمعات ما تزال داعشية السلوك. ما يجعل تحذيراتها من الإضاءة العالية أو من وجود مشاهد مؤذية للمشاعر مجرد تقليد سخيف لا يستند إلى أساس تربوي قائم مسبقا.
قامت القوات الروسية بقصف سوق في إحدى المدن الأوكرانية مؤخرا. وكانت هناك طفلة من بين الضحايا. وعندما أرادت بعض القنوات الغربية تقديم التقرير عن تلك الطفلة، فقد ذكرت ذلك التحذير. ولكنك بعد أن تشاهد صورا للطفلة مع أمها، وأخرى لموقع الحادث، لن ترى أكثر من العربة التي كانت الأم تضع طفلتها فيها. العربة ظهرت مقلوبة فقط. والأشياء الصغيرة فيها مبعثرة. لم تظهر جثة الطفلة. ولا حتى الدماء، رغم أن الأم نفسها فقدت قدما في الحادث.
هذا المشهد مؤذ في الغرب. ترابط الصور في الذهن هو المؤذي، من دون حاجة إلى أن يعرض التقرير تلك الصور فعلا. وهو مؤذ بسبب منظومة تربوية تستنكر الوحشية؛ تستنكر القسوة، بينما نحن نتقبلها ونتعايش معها ونمارسها كشيء مألوف أو “عادي”. وصارت لدينا محاكم تطالب بها أيضا.
الأزهر يظل هو الأزهر في النهاية. أي أنه مؤسسة يُركن إليها في توظيف النص الديني وفهمه.
ذات يوم، وردا على جريمة من جرائم داعش، صدر عن الأزهر بيان يندد بالجريمة ويدعو إلى أن تُقطع أيدي المجرمين وأرجلهم من خلاف.
هذا المشهد مأخوذ من قول فرعون لسحرته: “فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خلاف وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ”.
حيال النفس أيضا
لم ينتبه شيوخ الأزهر إلى أن هذا القول هو قول فرعون لمن آمنوا برب هارون وموسى، بمعنى أن توظيفه خاطئ تماما عندما يتوجه لمجرمين. لم ينتبهوا أيضا أنه تعبير عن طغيان فرعون ووحشيته، فطغوا مثله. ولكن أسرتهم “المشهدية” في فكرة تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، فأخذوا بها.
كيف تثق بشيوخ أزهر من هذا النوع؟
الترويع في مواجهة الترويع ليس حلا. لم يدركوا ذلك. ما فكروا فيه أصلا.
في العام 1998 بث التلفزيون الحكومي المصري إعدام ثلاثة رجال في عام قتلوا امرأة وطفليها في منزلهم بالقاهرة. لم يوقف ذلك البث جرائم القتل المماثلة. وبكل تأكيد، لم تقم المؤسسات المعنية بإحصاء الأثر من بعد ذلك.
الأمم المتحدة هي التي تبرعت في العام 2015 بإجراء مسح لأعمال العنف التي تُرتكب ضد النساء في مصر، فوجدت أن هناك ثمانية ملايين امرأة ضحية لهذه الأعمال.
السلوك الداعشي ضد المرأة في العالم العربي يحتاج إلى إحصاء لا يتوقف؛ يحتاج إلى منظومة تربوية تنهض بها المدارس والجامعات ووسائل الإعلام ومؤسسات الإنتاج الفني والإدارات والنقابات، في جهد منظم، بطيء، ولكن متواصل. ولا يقصد اجتراح المعجزات في خمس دقائق.
المظاهر التي تثبت أن السلوك الاجتماعي في مصر هو سلوك داعشي أكثر من أن تعد أو أن تحصى. ليس حيال المرأة، ولا حيال الطفل. ولكن حيال النفس أيضا.
وأشكال الداعشية شتى، ولا تقتصر على “جرائم الشرف”، أو الاغتصاب، أو الاستعباد، أو القتل العشوائي.
وإذا شئت أن تنظر في عين الواقع، فداعش ليس جسما غريبا. الغريب هو من لا يرى أن داعش يمثل تجسيدا حقيقيا وأصيلا لثقافتنا وسياستنا ومجتمعنا.
الذين يمارسون أعمال التعذيب في السجون، دواعش. والذين يستولون على السلطة بالسيف دواعش، والذين يعتلون المنابر ليكفروا الناس، دواعش. والذين يضعون أنفسهم فوق القانون، دواعش. والذين يقتلون نساءهم على الشبهات، دواعش. والذين يضربون الأطفال ويستعبدونهم، دواعش. والذين يُجرّمون الناس على رأي يُقال أو كلمة تُكتب، دواعش. والذين ينظرون إلى الأقليات من الأديان الأخرى نظرة احتقار أو تصغير، دواعش. كل هؤلاء دواعش. وهم عندما يمارسون جرائمهم، فإنهم لا يبتغون الجريمة وحدها، ولكن مشهديتها أيضا.
المشهدية في الجريمة، جريمة ليست أقل سوءا. إنها جريمة ثقافة اجتماعية أولا وآخرا. الذي قال “إذا ابتليتم بالمعاصي، فاستتروا” إنما كان يقصد أن يقطع دابر المشهدية بالمعصية، فما بالك بالجريمة.
نقلاً عن العرب اللندنية