سركيس قصارجيان
بعد فضيحة الفيديو الجنسي، التي فجّرها المافيوزي التركي المقيم في دبي سيدات بيكير حول أحد مدراء وسائل الإعلام التركية، وتهديده بوجود فيديوات أخرى لسياسيين وحزبيين من حزب “العدالة والتنمية” في حوزته، جاءت فضيحة أخرى لتزيد من معاناة السلطات التركية، وهذه المرّة في جناحها الديني.
هدد سعد الدين أوسطا عثمان أوغلو نجل شقيق شيخ جماعة إسماعيل آغا الدينية، محمود أوسطا عثمان أوغلو، المتوفى الشهر الماضي، “بنشر مقاطع فيديو” تعود لشيخ آخر في الجماعة، في إشارة واضحة إلى تفاقم الخلاف الناشئ حول خلف زعيم الجماعة الدينية التركية الأكبر والأكثر دعماً للرئيس التركي بعد فض شراكته مع جماعة فتح الله غولن في العقد الأخير من حياته السياسية.
من هي جماعة “اسماعيل آغا” الدينية؟ وما هو موقعها في الهرم السلطوي التركي؟
تعتبر جماعة “اسماعيل آغا” أحد التيارات الرئيسية الثلاثة للطريقة النقشبندية في تركيا، وتتميز بأنها الجماعة الأكثر جماهيرية مقارنة مع الجماعتين الآخريين “اسكندر باشا” (تسمّى أيضاً طريق الحق)، والتي تعرف بأنها أكثر نخبوية وتستهدف الأكاديميين والبيروقراطيين بشكل خاص حيث أنها مؤثرة جداً في القضاء التركي لكثرة القضاة والمدّعين العامين من أعضائها، وجماعة “اران كوي”، التي تستهدف بشكل أكبر الحرفيين، إضافة إلى الإعلاميين.
أخذت الجماعة اسمها من الجامع الذي تأسست فيه، وهو مسجد “اسماعيل آغا” العثماني في محلة الفاتح في اسطنبول، على يد الشيخ محمود أوسطا عثمان أوغلو، الذي كلّف في خمسينات القرن الماضي إمامة مصلى مسجد إسماعيل آغا، مستهدفاً الطبقة الفقيرة من الناحيتين المادية والتعليمية.
هذا التوجّه أكسب الجماعة نفوذاً في ضواحي الميتروبولات، والتي تحولت في الكثير منها إلى “غيتوات شريعة” تحمي أنصارها من “رأسمالية المدن الكبرى المتوحّشة” وتؤمن للموردين مجتمعاً بديلاً حيث الظلم والفقر والحاجة موزّعة على الجميع بشكل متساوٍ، لتصبح هذه الغيتوات ملجأ وشكلاً من أشكال اعتراض “عباد الله” على حياة الظلم والقهر في المدن الكبرى.
يسمّى أعضاء الجماعة بـ “الإخوة” بينما يسمى أتباعها والمؤمنون بمبادئها بـ”العوام”. الجماعة تفرض زيّاً خاصاً على مورديها، حيث يلبس الرجال منهم العباءة والعمامة مطلقين ذقونهم، فيما النساء يتغطين بالبرقع الأسود، ويمنع الاختلاط بين الجنسين. ويندر تواجد المرأة في الحياة الاجتماعية، كما أن أجهزة التلفاز محظورة في بيوت معظم موردي الجماعة.
تتميز الجماعة أكثر من غيرها بتزويج القاصرات، وتعدد الزوجات ولكن أهم سماتها، هو فتوى مؤسسها محمود أوسطا عثمان أوغلو بتحريم التحاق الإناث بالمدارس، وضرورة حصر تعليمهن بحلقات حفظ القرآن التي تقيمها الجماعة.
وعلى عكس معظم الطرق والجماعات الدينية في تركيا، والتي يقودها في الغالب شيوخ من القومية الكردية، فإن جماعة اسماعيل آغا يغلب على قادتها الانتماء لولايات شرق البحر الأسود ذات التوجّه القومي التركي. فمؤسسها من مواليد ترابزون وأشهر شيوخها في الإعلام الشيخ أحمد محمود أونلو المعروف بلقب “جبيلي أحمد” (أحمد أبو عباءة) من مواليد غيريسون، ما يجعل منها جماعة دينية قومية.
جماعة دينية ضالعة في الاغتيالات
دخلت الجماعة التاريخ كأول طريقة دينية تنفّذ اغتيالاً لشخصية حكومية، عندما قام أحد أفرادها، وهو امام جامع ومن المقرّبين من “محمود أوسطا” بقتل مفتي محلة “سكودار” في اسطنبول حسن علي أونال عام 1982، بسبب اعتراض الأخير على نشاط جماعة “اسماعيل آغا” وبخاصة بما يخص إنشاء حلقات تعليم الدين، ومنع مورديها من التجوّل بلباسهم التقليدي. وعلى الرغم من تبرئة القضاء زعيم الجماعة من تهمة “التحريض على القتل” إلا أن العديد من الشهود أكدوا قيام الزعيم الروحي بإفتاء جواز “ضرب المفتي ضرباً مبرحاً” بسبب مواقفه العدائية حيال الجماعة.
جرائم التصفية داخل الجماعة ذاتها، هي أيضاً لافتة للانتباه. أبرز هذه الجرائم تلك التي أودت بحياة خليفة “محمود أوسطا” وصهره “هزر علي مراد أوغلو” عام 1996، أثناء أدائه الصلاة في جامع “اسماعيل آغا” بطلق ناري، ومن ثم تصفية خليفته الثاني في عام 2006 بايرام علي أوزتورك طعناً بالسكين.
في عام 2008 تعرّضت الجماعة إلى أكبر عملية ملاحقة قضائية من قبل عدلية “ارزينجان” بتهم عدة، منها “تأسيس لجان نسائية، جمع التبرعات من دون موافقات رسمية، والأهم الحصول على شهادات تعليم وزارية مزوّرة للإناث المحظورين من ارتياد المدارس”، لكن ما لبث أن تم اغلاق الدعوة وتحويلها إلى غرامات مادية على خلفية تنظيم دورات من دون موافقة، ليتم محاكمة قاضي الادّعاء لاحقاً بالانتماء لجماعة محظورة، قبل أن يتم الغاء مخالفة اقامة الدورات من دون موافقة تستند إلى قانون العقوبات التركي، ارضاء للجماعة، وهو ما فتح الطريق أمام الطرق الدينية للتغلغل أكثر في المجتمع التركي خلال العقدين الماضيين.
الجماعة أهم كتلة انتخابية للرئيس التركي
بقيت جماعة “اسماعيل آغا” لسنوات بعيدة من جسم الدولة التركية وذلك بسبب عدم ايمانها بمبادئ الدولة والقوانين الوضعية من جهة، ونتيجة لـ”اللحية الطويلة” والزيّ الخاص الذي يميّز أفرادها عن موظفي الدولة وبيروقراطيتها. لكن في السنوات الأخيرة بدأت الجماعة تنشط بشكل كبير جداً في رئاسة الشؤون الدينية، التي اعتمدت مؤخراً قانوناً يسمح بقبول “مؤهلين دينيين” من خارج كوادر المؤسسات المعتمدة من قبل الرئاسة، ما فتح الطريق أمام المئات من أتباع الجماعة للوصول إلى مناصب “الإمام والشيخ والمؤذن والمسؤول” في المؤسسة الدينية التركية.
ويُعتقد أن صدور القرار الذي جاء قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2019 كان بهدف إدخال الجماعة في الدولة، مقابل تعهّدها بمنح أصواتها للرئيس رجب طيب أردوغان، وهو ما شكّل الاستثناء الأول في مسار الجماعة.
أما الاستثناء الثاني فكان الإعلان الواضح والصريح لدعمها حزب “العدالة والتنمية” منذ انتخابات عام 2015، وهي سابقة في تاريخ الجماعات الدينية، التي تحاول عادة الترفّع عن الانتماءات الحزبية والسياسية، لتعارضها مع جوهر التصوّف من جهة، ولعدم خسارة قدرتها على مخاطبة الناس من توّجهات قومية وحزبية مختلفة.
في الانتخابات المحلية لعام 2019، أفتى الشيخ الأكثر شهرة في الجماعة أحمد أبو العباءة”بحرمة الأصوات الممنوحة لمرشّح المعارضة أكرم امام أوغلو، الذي فاز لاحقاً ببلدية إسطنبول.
هذا الإعلان شكّل بداية تسييس الجماعة بشكل كامل، إلى جانب فتح الطريق أمامها للتمكّن من انتزاع رئاسة الشؤون الدينية، فقد أدى إلى تمركز رأس مال ضخم في يدها، ما مكّنها من تأسيس جمعية خيرية ذات شبكة دولية واسعة باسم “IDDEF” (اتحاد جمعيات منح القيمة للإنسان)، المنتشرة في الدول شرق آسيا وأفريقيا بشكل فعّال، ومن بنغلادش إلى كينيا.
تحوّلت جماعة “اسماعيل آغا” إلى لوبي قوي للضغط في الداخل، ما دفع بالسياسيين إلى طلب ودّها، على عكس السائد في السياسة التركية، حيث كانت علاقات السياسيين بالجماعات الدينية تشوبها السرّية المطلقة، ليفجّر تواصل مسؤول في الدولة مع زعيم ديني “فضيحة” مدوّية.
في عام 2019، زار مرشّح “العدالة والتنمية” لبلدية إسطنبول، رئيس الوزراء الأسبق ورئيس البرلمان التركي السابق بن علي يلدريم، زعيم الجماعة طالباً أصواتها، وتم نشر صور هذه الزيارة بشكل علني. تبعت هذه الزيارة أخرى قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لزعيم الجماعة أيضاً، وبالمثل تم نشر صور لقاء الزعيمين في الإعلام التركي.
توفّي مؤسس الجماعة محمود أوسطا عثمان أوغلو في حزيران (يونيو) الماضي عن عمر ناهز 93 عاماً، ليتم تشييعه بجنازة مهيبة من دون مشاركة النساء بناء على وصيّته، تسابق السياسيون الأتراك من الحكومة والمعارضة على الظهور في صفوفها الأولى، بدءاً من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان برفقة الناطق باسم الرئاسة التركية، ابراهيم قالن، ومسؤول التواصل في القصر الرئاسي، فخر الدين التون، ووزراء الداخلية سليمان صويلو، والعدل والصناعة التكنولوجيا، والشباب والرياضة، ونائبه في الحزب، مروراً برئيس الوزراء الأسبق ورئيس حزب المستقبل أحمد داوود أوغلو وصولاً لممثلي حزب “الشعب الجمهوري” المغالي في علمانيّته.
يحظر قانون العقوبات التركي إنشاء التكيّات والطرق الدينية، كما يحظر التسميات الدينية المختلفة كالشيخ والإمام والقطب وغيرها، إلا تلك المعتمدة من قبل رئاسة الشؤون الدينية التي تؤدي مهام وزارة الأوقاف في الدول الإسلامية الأخرى.
لكن في مفارقة مذهلة، وخطوة بمثابة ارتكاب جرم وفق القوانين التركية، تم خلال الجنازة الإعلان عن خليفة الزعيم الروحي المتوفى بحضور الرئيس التركي ووزير الداخلية المعني بتنفيذ القوانين، حين تم تسمية “حسن كيليتش” (92 عاماً) وهو صهره.
هذه الخلافة، فجرّت خلافاً في الجماعة يهدد بانقسامها إلى 3 جماعات، أولها المجموعة المركزية، وهي الأكبر عدداً ويرأسها الصهر خليفة مؤسس الجماعة في رئاستها حسن كيليتش، والثانية، المجموعة التي تقودها عائلة زوجة مؤسس الجماعة، والثالثة وهي الأهم، والتي يرأسها الشيخ أحمد محمود أونلو الملقّب بأحمد أبو عباءة، والمعروف بقربه من الرئيس التركي.
أعرب أحمد أبو عباءة، وهو صاحب قناة تلفزيونية وشخصية مشهورة في الإعلام التركي (بشكل مناقض لتعاليم الجماعة) عن رفضه لرئيس الجماعة الجديد، بشكل غير مباشر، من خلال ابداء انزعاجه من موقعه في الصفوف الخلفية خلال جنازة سيّده، وعدم السماح له “بالاقتراب من نعشه”، مطالباً بأن تكون الزعامة انتخابياً.
وفي الوقت الذي زادت فيه التكهّنات بقيام أحمد أبو عباءة بإعلان مشيخته وجماعته، بخاصة أن معظم أتباعه ليسوا من منتسبي جماعة “اسماعيل آغا” ويملك قناة تلفزيونية واذاعة، خرج نجل شقيق الزعيم الروحي مهدداً بنشر مقاطع فيديو جنسية للشيخ أحمد أبو عباءة “في حال تجرأ على اعلان مشيخته الخاصة” وتسبب بشقّ صفوف الجماعة.
وتوجّه نجل شقيق مؤسس الجماعة للشيخ أحمد أبو عباءة في مقطع فيديو على يوتيوب بأسئلة اتهامية قال فيها “لمن أقسمت بالولاء في عام 2009 عندما كان سيدنا (محمود أوسطا عثمان أوغلو) على قيد الحياة؟ هل استفسرت من أحدهم عن امكان تحول قبرك إلى مزار بعد وفاتك؟ هل استفسرت حول العمر الافتراضي لسيدنا خلال مرضه؟ هل تعرف الإندونيسي السيد نيفل كاف؟ نحن نعلم ما قدمه لك هذا الرجل، وكم أعطيت هذا الرجل؟ من كان صاحب المنزل الذي استضفت فيه النساء التي أحضرها لك؟ هل تعرف شوارع الملاهي في القاهرة؟ ماذا نعلم حين ذهبت إلى لبنان عندما لم تتمكن من العثور على ما كنت تبحث عنه في القاهرة، ونعلم أيضاً النساء اللواتي أحضرتهن من لبنان”.
على الرغم من صدور بيان باسم الجماعة ندد “ببيان التهديد” وأعلن عن “الوقوف إلى جانب الشيخ أحمد أبو عباءة” إلا أن تواصل الخلافات تنذر بانشقاق قريب بين الجانبين سيؤثر حكماً في القاعدة الانتخابية للرئيس التركي، الذي قد يضطر في حال تطور الخلاف إلى صدام قضائي أو شعبي، أن يؤيد طرفاً على حساب الآخر.
نقلاً عن “النهار” العربي