سامح إسماعيل
كاتب مصري
تعكس التصريحات الأخيرة، التي أدلى بها إبراهيم منير، نائب المرشد، والقائم بأعمال المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، حالة التصدّع الأيديولوجي التي يشهدها التنظيم، في ظلّ انقسام غير مسبوق، ربّما يشير إلى انهيار مرتقب على صعيد البُنى التنظيمية، التي كانت من أبرز إنجازات الجماعة، منذ تأسيسها في أواخر عشرينيات القرن الماضي، والتي قامت على نمط الدولة الموازية، من خلال هيكل بنيوي، يتكون من علاقات معقّدة بين الدولة والمجتمع.
هذه البُنية المركّبة خلقت صراعاً بين الجماعة باعتبارها حركة براغماتية، تضبط أنشطتها وفقاً لمتغيرات متعددة ومختلفة، وبين دولة واجهت دوماً صعوبات في الوفاء بالتزاماتها تجاه المجتمع، الأمر الذي سمح لحركة الإخوان المسلمين بالتمدّد، وتصدير ونشر فلسفتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بحسب توصيف الدكتورة هدى النعيمي، في دراسة لها منشورة بالإنجليزية على موقع “تريندز للبحوث والاستشارات”.
مناورات إبراهيم منير تعكس خللاً بنيوياً
قال القائم بأعمال المرشد العام، في مقابلة مع وكالة “رويترز” للأنباء أول من أمس: “نرفض العنف تماماً، ونعتبره خارج فكر جماعة الإخوان المسلمين، ليس فقط أن نستخدم العنف أو السلاح، بل حتى أن يكون هناك صراع على الحكم في مصر، بأيّ صورة من الصور”. وتابع: “حتى لو الصراع بين الأحزاب في الانتخابات السياسية أو غيرها التي تديرها الدولة، هذه الأمور عندنا مرفوضة تماماً، ولا نقبلها”.
ربما تُحيلنا هذه التصريحات إلى تاريخ الجماعة نفسه، ففي البداية، ادعى حسن البنا أنّ حركته تسعى إلى إحداث تغيير اجتماعي، ولا علاقة لها بالسياسة، وبعد أعوام، أعلنت الجماعة مشاركتها بقوة في العمل السياسي، وهذا التحوّل الحادّ عبّر عنه حسن البنا قائلاً: “ستخاصمون هؤلاء جميعاً، في الحكم وخارجه خصومة شديدة لديدة؛ إن لم يستجيبوا لكم، ويتخذوا تعاليم الإسلام منهاجاً يسيرون عليه، ويعملون له.. فإمّا ولاء وإمّا عداء، ولسنا في ذلك نخالف خطتنا أو ننحرف عن طريقتنا، أو نغير مسلكنا بالتدخل في السياسة”.
وسرعان ما أصبح للجماعة جهازها الخاص، وانخرطت في الصراع السياسي؛ بل ومارست الاغتيالات السياسية على نطاق واسع، فخرّبت وقتلت وزايدت على الدين والدنيا.
خطاب مرحلي
وعليه، فإنّ خطاب إبراهيم منير، يبدو مرتهناً بالتحوّلات اللحظية الحادة التي يعيشها التنظيم، وهو خطاب مرحلي، يظهر عليه التأثّر الشديد بقبليات الخطاب، ومعطيات المتلقي، على صعيد السلطة في مصر، وكذا القواعد الإخوانية التابعة، والتي بات ولاؤها متأرجحاً بين جبهتي الصراع من جهة، والبحث عن طريق ثالث للخلاص من جهة أخرى.
منير اعترف بصعوبة اللحظة قائلاً: “بالتأكيد هذه المرّة أقسى من كل المرات الماضية، ومن كل المحن الماضية”. وربما يعود ذلك إلى أنّ الضربة لم تكن أمنية فحسب، ذلك أنّ الجماعة لديها تاريخ من استيعاب مثل هذه الضربات، لكنّ الحقيقة التي يرفض منير الكشف عنها، هي فشل التنظيم في سؤال السلطة، وعمق الرفض الشعبي لعودة الجماعة إلى المشهد بأيّ حال من الأحوال، لكنّ حالة الإنكار الإستراتيجي ما زالت غالبة على خطاب الجماعة، حتى أنّ منير زعم في حواره الأخير أنّ الجماعة ما زالت تحظى بتعاطف كثيرين من أبناء الشعب المصري.
ربما يعود هذا الخلل البنيوي إلى إستراتيجية الجماعة، والتي وضعها حسن البنا، وتهدف إلى خلق دولة موازية، يرتكز مكتبها السياسي (مكتب الإرشاد) على بناء تحتي قوي، من خلال بنية اجتماعية تابعة تقوم على مبدأ الطاعة والولاء، وبنية اقتصادية ريعية، تمنح التنظيم قدرة دائمة على البقاء والتمدّد، لكنّ الجماعة اكتشفت عندما وُضعت تجربتها السياسية في الحقل التداولي للسلطة، في أعقاب ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011، أنّ الدولة الموازية التي كوّنتها تكاد تكون منفصلة تماماً عن الدولة الوطنية القائمة بمؤسساتها، وأنّ ابتلاع الأخيرة أشبه برغبة نملة في ابتلاع فيل.
سياسة الإنكار والسعي تجاه المشاركة في الحوار
حالة الإنكار الإخوانية، تجاوزت الداخل المصري إلى ساحة المتغيرات الإقليمية؛ حيث نفى إبراهيم منير تعرّض الإخوان لضغوط في تركيا. وقال “لا نرى ذلك ولا نشعر به”. لكنه استطرد: “من حق الدولة التركية أن تفعل أيّ شيء؛ يحقق أمنها وسلامة شعبها”.
وتبدو محاولة منير، التي ترمي إلى الإيحاء بأنّ الجماعة ما زالت تحظى بدعم أنقرة، أشبه بمن لا يرغب في إظهار مواطن ضعفه للآخرين، أو الاعتراف بسقوط غطاء الرعاية الإقليمية، رغم وضوح ذلك بشدّة.
منير أفصح في النهاية عن رغبة الجماعة في المشاركة في الحوار الوطني، المتوقع أن يبدأ في مصر قريباً، بين الحكومة والمعارضة، زاعماً أنّ المبادرة لا يمكن أن تكون “جادة ولا يمكن للحوار أن يحقق نتائج، إذا تمّ استبعاد الإخوان أو غيرهم منه”. وأضاف: “الحوار مطلوب صحيح، إنّما أيضاً لا بد أن يشمل الجميع”.
لم تكن تصريحات إبراهيم منير في هذا الصدد تحولاً مفاجئاً في موقف الجماعة؛ بل نتاج سلسلة من الأحداث التي مهّدت للإعلان، دون مواربة، عن تلك الرغبة، والتي مهّدت لها قبل أشهر تصريحات القيادي الإخواني يوسف ندا، ويمكن القول إنّ إبراهيم منير أراد من ذلك تحقيق تقدم نوعي على مستويين: الأول؛ رأسي من خلال تصدّر المشهد الإخواني، وإبعاد جبهة إسطنبول تماماً عن ممارسة أيّ فعالية سياسية، وكذلك كسب ود الحواضن الشعبية الغاضبة من حالة التشظي، خاصّة إذا ما نتج عن الحوار إطلاق سراح معتقلي الجماعة.
والثاني؛ أفقي يستطيع من خلاله الدخول في مفاوضات مع السلطة، لتخفيف الضغط الأمني على الجماعة، ومحاولة كسب المعارضة، لطيّ صفحة الماضي، والسعي تجاه مرحلة جديدة، ربما تسبقها فترة من الكمون الإستراتيجي.
المصدر حفريات