كريتر نت – العرب
بعد انسحابها من مالي ستسعى فرنسا لتقديم دعم أكبر للجيوش الإقليمية في منطقة الساحل الأفريقي من خلال التدريب الإضافي وتبادل المعلومات الاستخباراتية إضافة إلى دعم جهود التنمية للقضاء على الإرهاب.
وتسعى فرنسا لتكييف تواجدها العسكري الجديد في منطقة الساحل مع عدم الاستقرار الذي طال أمده في المنطقة وذلك من خلال تقديم دعم أكبر للجيوش الوطنية، وخاصة النيجر، مع المشاركة الأوروبية المستمرة.
ورغم ذلك، من المرجح أن يؤدي انسحاب فرنسا من مالي وعدم القدرة على التدخل في البلاد إلى استمرار تدهور البيئة الأمنية الإقليمية.
ودعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الثالث عشر من يوليو إلى إعادة النظر في الموقف العسكري الفرنسي في جميع أنحاء أفريقيا إثر رحيل فرنسا القسري عن مالي.
وشدد ماكرون على أن فرنسا ستسعى لتقديم دعم أكبر للجيوش الإقليمية من خلال التدريب الإضافي وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وألمح إلى أن باريس ستسعى لتأمين استمرار مشاركة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في منطقة الساحل. وجاءت إثر هذه الإعلانات أوّل زيارة رفيعة المستوى لوزراء فرنسيين إلى أفريقيا منذ إعادة انتخاب ماكرون في أبريل 2022، حيث زارت وزيرة أوروبا والشؤون الخارجية كاثرين كولونا ووزير الجيوش الفرنسية سيباستيان ليكورنو النيجر يومي الرابع عشر والسادس عشر يوليو. وفي حين أنهما لم يقدما تفاصيل حول كيفية تطور إستراتيجية فرنسا لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، شددت كولونا بشكل خاص على أهمية شراكة فرنسا متعددة الأبعاد مع النيجر.
وستكمل فرنسا انسحابها من مالي بنهاية الصيف الحالي. وقد اتخذت باريس هذا القرار في فبراير بعد أشهر من توتر العلاقات مع باماكو، وتحديدا بسبب المجلس العسكري الذي طلب الدعم شبه العسكري من مجموعة فاغنر الروسية.
الإستراتيجية العسكرية الجديدة لفرنسا في منطقة الساحل الأفريقي تحول تركيزها من مالي إلى دولة النيجر
ووصل المجلس العسكري إلى السلطة من خلال انقلابات متتالية في أغسطس 2020 ومايو 2021، ويعتمد في جزء منه على المشاعر المعادية لفرنسا لتأمين قبضته على البلاد.
وتقرر حل فرقة عمل قوة تاكوبا التابعة للاتحاد الأوروبي والمكلفة بمنع الجماعات الإرهابية من إقامة ملاذ آمن في منطقة الحدود الثلاثية بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، في الأول من يوليو بعد استكمال انسحابها من مالي.
وبالإضافة إلى تحوّل مالي المناهض لفرنسا، فقد ضعف موقف باريس في منطقة الساحل بشكل ملحوظ خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية، ويرجع ذلك جزئيا إلى التحولات غير القانونية في السلطة في بعض أقرب حلفائها الإقليميين مثل بوركينا فاسو وتشاد.
ومن المرجح أن تشهد الإستراتيجية العسكرية الجديدة لفرنسا في منطقة الساحل تحول تركيزها من مالي إلى النيجر. وتريد باريس التأكد من أن الجيش النيجري قادر على العمل كحصن ضد الجماعات الجهادية وأن الوجود العسكري الفرنسي المتبقي في منطقة الساحل لا يولد المزيد من المشاعر المعادية لفرنسا بين السكان المحليين.
وأدى انسحاب فرنسا من مالي والنهاية المفترضة للغطاء الجوي الفرنسي إلى تفاقم التوقعات الأمنية للبلاد، حيث لا يمتلك الجيش المالي ولا مجموعة فاغنر الروسية قدرات جوية تضاهي تلك الفرنسية. وهذا ما سيمكن الجماعات الجهادية من نيل قدر أكبر من حرية الحركة.
وستزيد فرنسا من دعمها للدول الأخرى في المنطقة للتخفيف من مخاطر انتشار الجهاديين المتوقع من مالي.
وستقدم باريس دعما خاصا للنيجر بسبب علاقاتهما الوثيقة في محاولة لمنع ارتباط الجماعات الجهادية العابرة للحدود في مالي ونيجيريا. ومع ذلك، فإن نطاق عمل باريس سيكون مقيدا بالمشاعر المعادية لفرنسا المتزايدة في منطقة الساحل، وهو ما قد يدفع الحكومات الإقليمية إلى رفض إعادة تمركز 2400 جندي فرنسي في مالي على أراضيها. ولمنع تزايد المشاعر المعادية لفرنسا، أشارت باريس إلى أن وجود قواتها المتبقية يكون أكثر تكتما ويعمل لدعم القيادات العسكرية المحلية بدلا من مبادرتها الخاصة، مما قد يجعل دول الساحل، ولاسيما النيجر، أكثر ميلا إلى قبول نشر قوات فرنسية إضافية على أراضيها.
ويبدو أن باريس مستعدة لتقديم مساعدات تنموية إضافية لدول الساحل ودعم مبادراتها الخاصة بمكافحة الإرهاب. كما يمكن أن تشهد هذه الإستراتيجية الجديدة دعوة باريس للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي للموافقة على مهمة مماثلة لفرقة عمل تاكوبا التي تُطلق في النيجر، في انتظار دعمها، بالإضافة إلى تقديم دعم أكبر للدول الأفريقية الساحلية بسبب تهديد التطرف العنيف الزاحف باتجاه خليج غينيا.
وعززت باريس بالفعل دعمها التنموي للنيجر من خلال التوقيع على قرض بقيمة 50 مليون يورو لتحسين شبكة الكهرباء في البلاد، بالإضافة إلى تبرع بقيمة 20 مليون يورو وزيادة بنسبة 66 في المئة في المساعدات الغذائية الثنائية الفرنسية للنيجر لسنة 2022. ومن المتوقع أن يتعزز هذا التوجه، الذي يبدو أنه يربط التنمية الاقتصادية بمكافحة الإرهاب، خلال 2023 و2024، ومن المرجح أن يتوسع إلى دول شريكة أخرى في المنطقة.
وعلى الرغم من نفورها من المجلس العسكري في باماكو، فإن تصميم فرنسا على منع التوسع الجهادي قد يجعل من الممكن أن تقبل ضمنيا جهود الشركاء الإقليميين لإعادة دمج مالي في مجموعة دول الساحل الخمس المعروفة بـ”جي 5″ بعد انسحاب البلاد من قوة مكافحة الإرهاب الإقليمية في مايو. ومع ذلك، سيتطلب ذلك منح مالي الرئاسة الدورية للمنظمة ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت دول الساحل الخمس الأخرى مستعدة لاتخاذ مثل هذه الخطوة.
ولا يزال العدد الدقيق للأفراد العسكريين الفرنسيين الذين سيُنشرون في منطقة الساحل بعد رحيل فرنسا من مالي غير واضح. وقال قائد عملية برخان الفرنسية لمكافحة المتطرفين في منطقة الساحل الجنرال لوران ميشون إن حوالي 2500 جندي فرنسي سيبقون على الأرجح في منطقة الساحل بمجرد اكتمال الانسحاب من مالي. لكن المحادثات حول الطبيعة الدقيقة للوجود العسكري الفرنسي المستقبلي في المنطقة لا تزال جارية بين باريس وحكومات الدول المعنيّة. وقد يؤدي الوجود الخفي للقوات الفرنسية مع التهديد الأمني المتزايد الناشئ من مالي إلى قبول حكومة النيجر زيادة مؤقتة في عدد الجنود الفرنسيين في البلاد بينما تعمل على تكثيف قدرات قواتها المسلحة.
من المرجح أن يؤدي انسحاب فرنسا من مالي وعدم القدرة على التدخل في البلاد إلى استمرار تدهور البيئة الأمنية الإقليمية
وفي حين أنه من المتوقع أن تعزز هذه الإستراتيجية الجديدة القدرات العسكرية للبلدان الشريكة في منطقة الساحل، فإن عدم قدرة فرنسا على التدخل في مالي، إلى جانب تفاقم العنف في بوركينا فاسو، يعني أن تدهور البيئة الأمنية في المنطقة سيستمر على الأرجح.
وستوفر القدرات الجوية الضعيفة لمالي والعنف الطائفي في البلاد، إلى جانب انتهاكات حقوق الإنسان المستمرة من الجيش المالي وقوات فاغنر شبه العسكرية، أرضا خصبة للجماعات الجهادية للسيطرة على أجزاء من البلاد. ولن يؤدي هذا إلى تفاقم حالة انعدام الأمن في مالي فحسب، بل أيضا في البلدان المجاورة، حيث من المرجح أن يتطلع الجهاديون إلى استخدام هذه الأراضي لتكثيف العمليات عبر الحدود، والتي تحدث بالفعل في المنطقة الثلاثية الحدودية مع النيجر وبوركينا فاسو.
وفي حين أن التدريب الإضافي وتبادل المعلومات الاستخباراتية من فرنسا سيحسنان قدرات مكافحة الإرهاب لدول الساحل، إلا أنها ستظل غير كافية في مواجهة النشاط الجهادي المتزايد دون معدات عسكرية إضافية، وهو أمر لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت باريس مستعدة لتقديمه. وفي حين أن إستراتيجية فرنسا العسكرية الجديدة تهدف على الأرجح إلى احتواء عدم الاستقرار في مالي ويبدو أنها تركز على النيجر، فإن نجاحها قد يعتمد على التطورات في بوركينا فاسو، حيث سعى المجلس العسكري الحاكم للابتعاد عن باريس على الرغم من الهجمات المتزايدة في منطقة الحدود الثلاثية مع مالي والنيجر. ومن المقرر أن يستمر الدعم الجوي الفرنسي في بوركينا فاسو على المدى المتوسط، ولكن من المرجح أن يرفض المجلس العسكري الحاكم زيادة في الوجود العسكري الفرنسي الذي من المرجح أن يؤدي إلى جانب التوقعات الأمنية المتدهورة لمالي إلى زيادة مستمرة في الهجمات الجهادية في البلاد.
وستكون لمزيد من التدهور في البيئة الأمنية في بوركينا فاسو تداعيات خطيرة على الدول الأفريقية الساحلية التي قد تشهد مناطقها الشمالية بمرور الوقت هجمات كرّ وفرّ تتحول تدريجيا إلى تمرد جهادي مستدام، رغم الزيادة المحتملة في الدعم الفرنسي.
وبالنسبة إلى دول الساحل، فإن امتلاكها لقدرات أكبر في مكافحة الإرهاب سيخفف من حدة المشاعر المعادية لفرنسا. لكن هذه المسؤولية المتزايدة ستعني أن الإخفاقات الأمنية المحتملة يمكن أن تضعف شرعية الحكومات الوطنية بين السكان المحليين وربما تفتح الطريق لمزيد من عمليات انتقال السلطة خارج نطاق القانون في المنطقة. وحدث هذا في وقت سابق من هذا العام في بوركينا فاسو، حيث أطاح الجيش بالرئيس السابق روش مارك كريستيان كابوري في يناير، متهما إياه بعدم ضمان أمن البلاد.
وقد يؤدي تدهور التوقعات الأمنية لمالي (والمنطقة الأوسع) بعد انسحاب فرنسا إلى زيادة تدفق اللاجئين نحو شمال أفريقيا وأوروبا. وسيؤدي هذا إلى زيادة الضغط على حدود الاتحاد الأوروبي الجنوبية، مما قد يؤدي إلى تفاقم المشاعر المعادية للمهاجرين في أوروبا.