جاد الكريم الجباعي
كاتب سوري
الإرهاب تسمية حديثة لظاهرة يفترض أنّها قديمة، فقد ظهر في البداية كفكرة سياسية إبان الثورة الفرنسية، وهو ما يعني في المحصلة أنّ الإرهاب والدولة القومية الحديثة كانا توأمين. فقد بدأ الإرهاب أول ما بدأ إرهابَ دولةٍ، في خلال حقبة دانتون وروبسبيير، وكان عنفاً جامحاً تمارسه الدولة ضد أعدائها، وليس هجوماً على السلطة العليا من قبل أعداء يتربصون بها في الخفاء، حسب تيري إيجلتون.
ظاهرة الإرهاب القديمة، التي ربما تمتد جذورها إلى حقبة الافتراس واختراع أدواته، في التاريخ البشري، تحولت إلى ظاهرة مقدسة، منذ تحولت الفريسة إلى “ضحية” لفكرة مقدسة، مذ ذاك، ارتبط الإرهاب بالمقدس.
وإذ يفصح بعض الإرهاب اليوم عن اقترانه بالمقدسات الدينية، و”العتبات المقدسة” واعتبار الموت تضحية وشهادة وارتقاء إلى مصاف القديسين، فإنّ إرهاب الدولة مقترن بمقدساتها القومية الخاصة، المحوَّلة عن مقدسات دينية. فليست “مقابر الشهداء” وطقوس تشييعهم وصورهم وتماثيلهم وفنون تكريمهم سوى نوع من طقوس دينية خاصة بالدولة القومية، بدليل تطابق أيديولوجيتها في هذا الشأن مع أيديولوجيات الجماعات الإسلامية المتطرفة.
لا شك في أنّ لجماعات الإسلام السياسي خطابها الأيديولوجي، لكن الأيديولوجيا ليست ديناً وإن كانت تستثمر في الدين، وليست فكراً وإن كانت تنسب نفسها إلى الفكر، وليست علماً وإن كانت تدعي أنّ العلم لا يتناقض مع الدين. وإن وصفها بأنّها جماعات سياسية ليس إلا من قبيل تداخل معنى السياسة بمعنى السلطة؛ إذ تدعو إلى “حاكمية الله” واستعادة الخلافة الإسلامية. ولا يفهم من التباس شعار “الحاكمية لله” واستحالة “بعث” الخلافة الإسلامية، إلا ما يفهم من خلافة أبوبكر البغدادي وتنظيم داعش وغيره. ولكن الجماعات الإسلامية أكثر وضوحاً في تحديد عدوها أو أعدائها، وفي مقدمتهم الدولة الحديثة، في حين يتجه إرهاب الدولة إلى عدو غير محدد تحديداً نهائياً، سواء في الخارج أم في الداخل، فهو بهذا إرهاب مفتوح أو غير محدود، يتجه، في المقام الأول إلى الشعب، باعتباره “العدو الموضوعي”، الذي يمكن أن يظهر في أي وقت، من حيث لا تحتسب السلطة، فتنظر إلى كل مواطن على أنه عدوّ محتمل، لذلك يتركز خطابها على ضرورة اليقظة، يقظتها هي، حيال “أعداء الشعب” من المتآمرين والخونة والمندسين، والضرب على أيديهم بالحديد.
فالسلطة السورية، على سبيل المثال، لا تكتفي بقصف المدنيين ودفنهم تحت أنقاض منازلهم أو تحت أنقاض المدارس والمشافي والأفران والأسواق، بل تقتل المعتقلين لديها، وتزوِّر حقيقة موتهم. بهذا كله يعتبر إرهاب السلطة المسماة “دولة” أصل جميع أشكال الإرهاب، التي قد يكون بعضها رد فعل على إرهاب السلطة.
ينتمي خطاب الإرهاب والإعلام الذي يروجه إلى لغة “الحيوان الناطق” أو “الحيوان العاقل”، لا إلى لغة الإنسان المتمدن، العاقل والأخلاقي، الذي لا ينفصل عقله عن أخلاقه ولا ينفك عنه. وينبثق من لغة الحيوان الناطق وبنية المعرفة الخافية في اللاوعي أو اللاشعور الفردي والجمعي، المتوارثة من جيل إلى جيل، والتي تطفو على سطح الوعي في حالات العُصاب، الذي يصير “ديناً” ويجعل من الدين عصاباً جماعياً، بتعبير جورج طرابيشي. البشرية العاقلة والأخلاقية لم تتوصل بعد إلى ابتكار لغتها، إذ لا تزال تجمع بين لغة الحيوان الناطق ولغة الإنسان المتمدن. صحيح أنّ لغة العلوم محايدة، لكن أخطر المشكلات يمكن أن تتأتى من الحياد؛ وإذا قبلنا جدلاً أنّ لغة العلوم هي لغة العقل، لا يجوز أن يكون العقل محايداً إزاء الشر، أو إزاء الحرب والقتل والتدمير.
اللغة طاقة إنسانية منتجة، طاقة حيوية نوعية، ليست مجرد وسيلة أو أداة. “فإنّ الطريقة التي يفكر بها الناس، ويكتبون، ويحكمون، ويتكلمون (حتى النقاشات في الشارع والكتابات اليومية)، بل حتى الطريقة التي يستشعر بها الناس الأشياء، والكيفية التي تثار بها حساسيتهم، وكل سلوكهم، تحكمها، في جميع الصور، بنية معرفية، نسق، يتغير مع العصور والمجتمعات، إلا أنه يظل حاضراً في كل العصور وكل المجتمعات” .. “إننا نفكر داخل فكر مُغْفَل، هو فكر عصر معين ولغة معينة، ولهذا الفكر ولهذه اللغة قوانين تحويل خاصة بكل منهما”، حسب ميشيل فوكو.
فالإرهاب ليس سبباً للكراهية والحقد وعدم القدرة على إبادة العدو؛ بل نتيجة من نتائجها؛ إذ لا تتعين الذات إلا بنفي الآخر المختلف والأخرى المختلفة، فتتحول الذات إلى “هوية” جوفاء مظلمة، تنضح بالعدم والموت، في خطابها وممارستها. هكذا الهوية “الإسلامية” للجماعات الإرهابية، أو لحكومة وليِّ الفقيه وأمثالها، أو الهوية القومية المزورة للنظام السوري والنظم التي على شاكلته.
فالإرهابي “حيوان عاقل” ممسوح الدماغ، يبتنى أيديولوجية مقدسة مستوحاة من فعل القتل وفكرة التضحية والشهادة، تتجلى هذه الأيديولوجية، بلا لبس، في قطع الرؤوس وإخراج الأحشاء والتمثيل بالجثث والإمعان في القتل.
الإرهاب ليس سبباً لشيء؛ بل نتيجة، وأداة أو وسيلة لسلطة طاغية وسياسة متوحشة، كالسلطات المتآزرة في “الحرب على الإرهاب”، ونتيجة لشروط حياة متوحشة، تنتج عصابيين ومتعصبين، عُمل بهم كل شيء، فصاروا مستعدين أن يفعلوا كل شيء. الدول القومية، لا تزال تنتج الإرهاب وتستثمر فيه، وتنتج الكراهية في مجتمعاتها لكل “غريب”، فتنتج إرهابيين. الحرب على الإرهاب “إرهاب مقدس” دفاعاً عن “مصالح الأمة” أو دفاعاً عن الله أو عن النبي أو عن الإسلام أو عن الوطن. وهذا من أخطر ما يواجه البشرية في أيامنا.
المصدر حفريات