عمرو فاروق
تحدث الرئيس الأميركي جو بايدن خلال الساعات الماضية، رسمياً عن تفاصيل مقتل زعيم تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري، داخل مدينة كابول الأفغانية، بعد سنوات من تاريخ طويل ممتد من التطرف والإرهاب سواء داخل الشرق الأوسط أو في العمق الأوروبي.
جميعنا مع الجهود المبذولة للقضاء على رؤوس العصابات والميليشيات المتطرفة المسلحة وقواعدها التنظيمية ووقف تمددها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، والتي هددت المجتمعات وشوهت صورة الشريعة الإسلامية منهجاً وفكراً وسلوكاً.
القراءة المتأنية لخطاب الرئيس الأميركي، تضع أمامنا الكثير من التفاصيل والمعلومات الهامة حول أهداف عملية استهداف الظواهري، والمكاسب التي حققتها الإدارة الأميركية على المدى القصير، جراء هذا التصعيد ضد تنظيم “القاعدة”، وتوقيت تنفيذ هذه العملية تحديداً.
في بيانه الأخير خاطب بايدن بشكل مباشر الداخل الأميركي في المقام الأول، كنوع من المغازلة لتحقيق المكاسب الانتخابية، فضلاً عن تحقيقه لانتصار تاريخي، كونه الرئيس الأميركي الوحيد الذي شهدت فترة رئاسته التمكن من مقتل زعيم تنظيم “داعش” أبو إبراهيم القرشي، وكذلك التمكن من مقتل زعيم تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري.
الشواهد تقود إلى اتفاقات سرية تمت في “الغرف المغلقة” بين ممثلي حركة “طالبان” ومسوؤلين من الاستخبارات الأميركية، للتخلص من أيمن الظواهري، باعتباره ورقة محروقة في الفترة الراهنة، يمكن توظيفها بما يحقق المزيد من المصالح والمكاسب لحكومة كابول، والاعتراف بها من قبل الدول والمؤسسات الغربية، لا سيما أن هيئة الإذاعة البريطانية الـ”بي بي سي”، نشرت تقريراً أفاد فيه شهود عيان، بأن “طالبان” أخلت المنازل المجاورة لمنزل الظواهري من ساكنيها، ومنعت الاقتراب من هذه المنطقة الجغرافية، قبل وقوع الحادث، ما يعني أن العملية مرتبة ومجهزة بين الطرفين.
الوصول إلى مقر إقامة أيمن الظواهري تم برعاية قيادات من حركة “طالبان”، لأسباب كثيرة منها، رد الجميل للإدارة الأميركية التي منحتها شرعية الانفراد بالسلطة في كابول، إلى جانب الكثير من المساعدات المالية من الجانبين الأوروبي والأميركي، والتوعد بتطبيع العلاقات الرسمية والدبلوماسية مع الحكومة الأفغانية قريباً.
لا يمكن للإدارة الأميركية تنفيذ عملية مقتل أيمن الظواهري بعيداً من مساعدة حركة “طالبان”، في ظل التعهد بوقف تمدد التنظيم “القاعدي”، ومن ثم حاول الخطاب السياسي للرئيس الأميركي، تبرئة “طالبان” من دماء أيمن الظواهري بشكل غير مباشر، فضلاً عن بيان الحركة المندد بتنفيذ العملية واعتبارها بمثابة اعتداء على السيادة الأفغانية، في محاولة لغسل سمعتها أمام دوائر الإسلام الحركي.
أرادت حركة “طالبان”، التخلص من عبء تنظيم “القاعدة”، وإشكالية وجود فصيل منازع أو منافس لها داخل البقاع الأفغانية، وكذلك الرد على الاتهامات الموجهة إليها بتحويل كابول لملاذ أمن لروافد التنظيم “القاعدي”، بخاصة في ظل النشاط المكثف والملحوظ لرجال الظواهري، ومدهم جسور التواصل مع قيادات شبكة “حقاني” المتحالفة مع “طالبان”، والتي تعمل وفق أجندة تناهض التسليم المطلق للأدارة الأميركية وتوجهاتها في المنطقة.
الخلافات بين تنظيم “القاعدة” وحركة “طالبان”، اشتعلت على مدار الأشهر القليلة الماضية، بسبب عجزها في التصدي لوقف دعم الخلايا “الداعشية” بالعناصر “الطالبانية” المنشقة نتيجة الصراعات الإدارية والفكرية، ما أدى إلى تمدد التنظيم “الداعشي” في المدن الأفغانية وإقليم خراسان، وتهديد الوجود “القاعدي” في تلك البقعة الجغرافية.
استهداف الظواهري جاء وفقاً لاستراتيجية القضاء على المرجعيات الفكرية والتاريخية المؤسسة لـ”قاعدة الجهاد العالمي”، على مدار السنوات الأخيرة، والتي شهدت مقتل عدد كبير من العناصر الفاعلة المؤثرة في عمق التنظيم “القاعدي”، أمثال أبو محمد المصري، وحسام عبد الرؤوف، وأبو مصعب عبد الودود، وأبو محمد السوداني، وأبو الخير المصري، ويحي أبو الهمام، وقاسم الريمي.
لن يتأثر تنظيم “القاعدة” كثيراً بمقتل أيمن الظواهري، الذي يمثل مرجعية تاريخية للحركة الجهادية، في ظل قراءة المعالم الفكرية لتنظيم “القاعدة”، وتطوراته الحركية على مختلف المستويات التنظيمية، والتي تشير إلى انتقال المكوّن “القاعدي” من مركزية القيادة المؤثرة والمهيمنة على الأفرع المنتشرة في عدد ليس بالقليل من دول الشرق الأوسط والعالم العربي، إلى تصعيد اللامركزية، التي برزت فيها الفروع وسيطرت على مقاليد التنظيم ومفاصله، وتحول إلى كيانات أشبه بالقوة التي تفرض توجهاتها على القيادة المسردبة والمتوارية عن المشهد تماماً، ما مكّنها من حرية التحرك واتخاذ القرارات المطلقة في ما يخص شؤونها الداخلية.
قيادة الظواهري لتنظيم “القاعدة” كانت محل خلاف بين القيادات المؤثرة في صناعة القرار التنظيمي، والتي علقت على إخفاقته وعدم تمتعه بكاريزما قوية تمكنه من السيطرة على الحالة الجهادية العالمية، وسد الفراغ الناجم عن مقتل أسامة بن لادن، في ظل المتغيرات التي شهدتها الساحة الدولية، وصعود الدور الوظيفي لتنظيم “داعش”، مع الفشل في وضع استراتيجيات للتجنيد الفكري والتنظيمي، في مقابل زيادة حجم الخلافات بين قيادات الأفرع الأقليمية وارتماء بعضها في أحضان تنظيم البغدادي.
من المرجح أن يخلف الظواهري في زعامة تنظيم “القاعدة”، محمد صلاح زيدان، المكنى بـ”سيف العدل”، المسؤول العسكري للتنظيم، والمقيم في طهران منذ عام 2002، والمتأثر بالعقلية الثورية الإيرانية، نظراً لارتباطه القوي والوثيق مع رجالات “الحرس الثوري”، وتلقيه المزيد من التدريبات العسكرية على أيديهم.
رغم مختلف المؤشرات التي توحي بقرب نهاية تنظيم “القاعدة” وانحداره في شكل كبير، يظل “سيف العدل”، المولود في مصر عام 1963، أحد مكونات معادلة البقاء والتمدد لكونه يمثل المرجع والخبير العسكري المؤثر في قطاع وفروع التنظيم التي أصابتها الهشاشة والتفكك.
كان “سيف العدل” ضابطاً سابقاً في الجيش المصري، وارتبط بتنظيم “الجهاد المصري”، وفقاً للمعلومات التي ذكرها برنامج مكافحة الاٍرهاب الأميركي، وعمل خبيراً لصناعة المتفجرات، ومسؤولاً عن “اللجنة الأمنية” لتنظيم بن لادن، وكان من المقربين من الملا عمر، حاكم “طالبان” أثناء إقامته في قندهار.
في أيار (مايو) 1987، أُلقي القبض على “سيف العدل”، في القضية المعروفة إعلامياً بـ”إعادة إحياء تنظيم الجهاد”، والتورط في محاولة اغتيال وزير الداخلية المصري حسن أبو باشا، قبل أن يُطلق سراحه لعدم كفاية الأدلة، ليهرب إلى السعودية، ومنها إلى السودان، ثم إلى أفغانستان عام 1989، وليقرر الانضمام إلى تنظيم “القاعدة”.
لم يكن “سيف العدل” من المؤسسين الأوائل لتنظيم “القاعدة”، لكنه مارس دوراً أساسياً في بناء القُدرات العسكرية والتأهيلية للتنظيم، بفضل خبراته العسكرية التي تكونت خلال مرحلة التحاقه بالصاعقة المصرية.
في بداية التسعينات من القرن الماضي، سافر “سيف العدل” إلى الصومال لإقامة معسكرات تدريبية للمسلحين، لاستهداف قوات حفظ السلام، لا سيما الأميركيين منهم، وحينها وجهت إليه الولايات المتحدة الأميركية، تهمة التورط في قتل 18 مجنداً أميركياً، في مقديشو عام 1993.
خلال الاجتياح الأميركي لأفغانستان بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001، اتجه “سيف العدل” برفقة عدد من قيادات “القاعدة” إلى إيران، في إطار تفاهمات بين الجانبين، ومن داخلها أشرف على مجموعة من العمليات الإرهابية المنسوبة للتنظيم، وأدى دوراً مهماً في تفجيرات الرياض في أيار (مايو) 2003، ما دفع المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة للضغط على طهران لسجنه، وبالفعل تم وضعه تحت الإقامة الجبرية.
وفي 19 أيلول (سبتمبر) 2015، كشفت تقارير استخباراتية أميركية، أن طهران أبرمت صفقة سرية مع تنظيم “القاعدة”، لإطلاق سراح 5 من قياداته، وضعتهم قيد الإقامة الجبرية، بعد غزو القوات الأميركية معظم الأراضي الأفغانية، مقابل تحرير دبلوماسي إيراني كان مختطفاً في اليمن، وكان في مقدمهم “سيف العدل”، قائد الجناح العسكري.
ووفقاً للكثير من التقارير الأميركية التي تناولت دور “سيف العدل”، في محاولة إحياء تنظيم “القاعدة”، وإعادته للتموضع الجغرافي، أشارت إلى تنقله بين المناطق الأفريقية، بهدف هيكلة الفروع وضمان ولائها، وتحويلها إلى مرتكز من خلال إقامة تحالفات مع عدد من الحركات المسلحة التي تميل إلى المنحى الفكري “القاعدي”، فضلاً عن عرقلة مساعي تنظيم “داعش” في استمالة أفرادها وقياداتها.
تزوج “سيف العدل”، من ابنة التكفيري المصري، المدرج على قائمة الإرهاب الدولي، مصطفى حامد الشهير بـ”أبو الوليد المصري”، أو “شيخ المجاهدين العرب”، الذي عمل مراسلاً لقناة “الجزيرة” في قندهار ما بين عامي 1998- 2001، وانتقل للإقامة في إيران عام 2002، وظل فيها حتى عاد إلى القاهرة عام 2011، ومنها إلى قطر عام 2013، ليستقر به الحال مرة أخرى في إيران منذ عام 2016.
تشير الكثير من التقارير البحثية إلى وجود منافسين آخرين على خلافة الظواهري، أمثال، محمد أباتي المكنى بـ”عبد الرحمن المغربي”، المولود في مدينة مراكش عام 1970، والمدرج على قوائم الإرهاب الدولي، ويشغل منصب القائد العام لـ”القاعدة” في أفغانستان، وباكستان، منذ 2012، ويدير عمليات التنظيم من إيران، وفق موقع “المكافآت من أجل العدالة”، فضلاً عن أن المغربي يعتبر صهر الظواهري، والمسؤول عن إدارة المكتب الإعلامي، والمنسق العام للاتصالات الخارجية لتنظيم “القاعدة”.
وكذلك، أحمد ديري أبو عبيدة، المدعوم بقوة من النظام الإيراني، والقائد الحالي لحركة “الشباب الصومالية”، التي تعتمد بشكل مباشر على سلاح إيراني الصنع في مواجهاتها، ما يدعم ويكرس فكرة تبعيتها لتوجهات نظام الملالي، بخاصة أن الحركة نفذت عمليات مضادة للمصالح الأميركية، رداً على اغتيال قاسم سليماني، قائد “فيلق القدس” في عام 2020.
ويأتي في نهاية السباق مبارك يزيد، المكنى بـ”أبو عبيدة يوسف العنابي”، زعيم تنظيم “القاعدة” في بلاد المغرب العربي، ويحمل الجنسية الجزائرية، وقد وضعته الخارجية الأميركية على قوائم الإرهاب، في أيلول (سبتمبر) 2015، وتولى قيادة التنظيم خلفاً لعبد المالك دروكدال، الذي قتل في حزيران (يونيو) 2020 إثر عملية عسكرية نفذتها القوات الفرنسية بشمال غربي مالي.
سيطرة طهران على العقلية الجديدة التي تدير المشهد “القاعدي”، بات محل اهتمام من قبل الباحثين، في ظل ميول كل من سيف العدل، وعبد الرحمن المغربي، وأحمد ديري، إلى المنهج الإيراني، بخاصة أن طهران لعبت دوراً في تأهيل قيادات تنظيم “القاعدة”، وفقاً لتقرير “اللجنة الوطنية للتحقيق في الهجمات الإرهابية ضد الولايات المتحدة”، المعروفة بـ(لجنة 11 أيلول/سبتمبر)، وهي لجنة مستقلة مكوّنة من الحزبين، الجمهوري والديموقراطي أنشئت بموجب قانون أصدره الكونغرس أواخر عام 2002، وتضمن تحقيقاً رسمياً عن العلاقة بين النظام الإيراني وتنظيم “القاعدة”، تحت عنوان “مساعدة من “حزب الله” وإيران للقاعدة”.
كانت بداية مرحلة التسعينات – وفقاً للتقرير – بمثابة الترجمة الحقيقية لعقد الشراكة بين تنظيم “القاعدة” ونظام الملالي، في ظل تدريبات جمعت بين كل من عناصر الجهاد المصري، وتنظيم “القاعدة” و”حزب الله” ومئات من عناصر “الحرس الثوري” الإيراني، داخل العمق السوداني.
في كانون الأول (ديسمبر) 2017، أظهرت وثائق أرشيف وكالة الاستخبارات المركزية التي رُفعت السرية عنها، وضبطتها في مخبأ “بن لادن” عقب اغتياله في أبوت آباد، العلاقة السرية بين تنظيم “القاعدة” وطهران، وتحدثت 19 ورقة من ضمنها حول دور أجهزة الاستخبارات الإيرانية، في تسهيل إصدار التأشيرات الخاصة لعناصر “القاعدة” المكلفين تنفيذ العمليات، وإيواء أعضاء آخرين في التنظيم.
كان من بين الوثائق، خطاب كتبه بن لادن عام 2007، شرح فيه مبررات عدم الهجوم على إيران، قائلاً: “إيران هي شرياننا الرئيس الذي يمدنا بالأموال والرجال وقنوات الاتصال، إضافة إلى مسألة الرهائن، ولا يوجد ما يستوجب الحرب مع إيران”.
نقلاً عن “النهار” العربي