- أحلام مصطفى
- كاتبة وباحثة
يعتمر في نفسي الكثير من الغيظ عندما أجد فيضاً من الحديث عن الكيفية التي نربي بها أبناءً حتى يكونوا هم صلاح الدين العصر الحديث، أو صقر قريش القرن الواحد والعشرين، أو خالد بن الوليد في بدلة كحلية وربطة عنق حمراء. أسأل نفسي كثيراً لماذا نتعامل مع التاريخ كأنه واجب الحفظ واجب التقليد واجب التنزيه، لماذا نعود إليه من أجل كل الأسباب الخطأ ولا ننظر فيه أو نتأمله كما ينبغي لنا. ستقولون من يدعون إلى ذلك يدعون إلى القيمة والروح التي تحلى بها هؤلاء وليس إلى أعمالهم ذاتها لأن الوضع اختلف والصراعات اختلفت، وفي الحقيقة أرى في هذا الردّ أكبر دليل على حاجتنا للتوقف عن مثل هذه الدعوات، فتغير السياق بطبيعة الحال يغير النتائج وما أدرانا هل كان صلاح الدين ليكون صلاح الدين لولا سياقه والتحديات التي واجهها أم كان ليصبح شخصية أخرى نذمها ونستشهد بطغيانها؟
يكفينا أن نقول أضاعتنا فرقتنا وأهلكنا طمعنا وانتهى الأمر، نجلس على كرسي أقدامنا في الماضي ورؤوسنا في المستقبل وأيدينا تمسك بالحاضر كضرير يتعلم الكتابة |
أذكر أنه في عام من أعوام مراهقتي طلع علينا عمرو خالد الشخصية الإعلامية المتكسّبة ببرنامج و”نلقى الأحبة”، وقد أُخِذت كما أُخِذ الناس بالقصص التي كان يرويها عن الصحابة والتابعين وتعاملاتهم وأخلاقهم وتفاصيل حياتهم وإلى آخر ذلك من رومانسيات مغلفة بالكثير من طبقات الصوت العالية والبكاء. وأذكر أنني عندها كنت كما الكثيرين لا أعود فأبحث عن تلك الروايات ولا عن التاريخ الذي كان يحكيه في الكتب أو الأدبيات التي تعهدها دارسون وعلماء بالكتابة والتأليف. بعد ذلك بسنوات زاحمه فلان آخر أحاول تذكر اسمه ويغلب على ظنّي أنه مصطفى حسني ليسير على ذات الخطى فإذا بالفئة التي تصف نفسها بالسلفية تهاجمه وأمثاله لأنهم لا علم لهم ولا معلمين فإذا به يجيء بأكوام من الكتب يرصها أمامه وهو يقدم حلقة ويعد للناس الشيوخ الذين تتلمذ عليهم في ردّ على تلك “الاتهامات”، وكأنه بذلك أثبت أحقيته في التعامل مع المادة التي بين يديه.
لا أريد أن أستنفذ مساحتي للكتابة في هذا الوضع المأساوي للعمل الدعوي أو الإصلاحي في وطننا العربي، ولكنني ذكرت هاذين المثالين لأنهما بكل أسف النموذج الذي يعتمد عليه الناس للاتصال بتاريخهم “الإسلامي”، أضعها بين أقواس لأن اللفظ المناسب هو تاريخ “المسلمين” وليس تاريخ الإسلام، ولكن هذا نقاش آخر! هؤلاء الأفراد ممن يدّعون الانتماء إلى وسطية سمحة وجميلة ومن يقابلهم ممن يدّعون السلفية الحقّة المستقيمة على الصراط، كلا الطرفين لا يتحدث في الحقيقة إلا عن التاريخ المحدود، التاريخ المنتقى والذي يعكس الصور المنعزلة عن الواقع التي يريدون وضعها في المكرز. يتحدثون عن ضرورة اتخاذ فلان قدوة وأن نتطلع إلى فلان ونحن نعامل أبناءنا وإلى فلان ونحن نعامل جيراننا وإلى فلان ونحن نعامل زوجاتنا، كلّ حسب ما يرى ويعتقد أنه الصواب. وتنتهي حلقة أحدهم فيظن أنه حاز العلم وأصاب من المعرفة ما يكفيه ويحقق غايته وما ينبغي عليه الآن إلا أن ينفذ.
مشكلتي يا أصدقاء أننا في المخيلة لا نرى تاريخ المسلمين المجيد إلا في الفتوحات والانتصارات، نعم يتحدثون عن العصر الذهبي للعلماء والأدباء ولكنهم يمهدون له دائماً بالجوانب العسكرية والمواجهات، حتى تحولت صورة الأمة المسلمة إلى صورة كيان سياسي بالدرجة الأولى، لا معرفي ولا ثقافي ولا تاريخي. لا يحدثوننا كثيراً عن ملوك الطوائف، ولا عن المؤامرات التي كانت تحاك من قبل الخلفاء وأولياء العهود، ولا يحدثوننا عن المستبدين الأوائل والمنهزمين الكبار.. لعل أبا محمد الثاني عشر آخر ملوك الأندلس هو أشهر مهزومينا مع أنه لم يكن سوى حلقة الختام في سلسلة طويلة من الإخفاقات. وهكذا يا قراءنا لا يحدثوننا عن السبل والمجريات، يحدثوننا عن النتائج والنهايات.
درست في أحد المساقات الجامعية من قسم العلوم الاجتماعية مادة تحت عنوان أصول التربية الإسلامية، وكان الكتاب المقرر هو كتاب “هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس” للدكتور ماجد عرسان الكيلاني الذي درّس لنا الكتاب بنفسه. عندها كنت مازلت في سنواتي الجامعية الأولى وعندي حماس الطلبة المقبلين على الحياة فلم أدقق كثيراً في العنوان ولا في محتوى الكتاب، ولكن الآن بعد سنوات مضت عليّ قرأت فيها وخبرت وتعلمت الكثير مما جعلني أقف موقف المتسائل غالب الوقت، المتشكك أكثر الوقت، والمتسالم بعض الوقت.
المهم أن الفكرة التي يقوم عليها الكتاب هي الفكرة الي تقوم عليها غالب فلسفاتنا في التعامل مع التاريخ، وكأننا يجب أن نصنع من تاريخنا نسخة كربونية ثم نعيد السير فوق خطوطها مراراً وتكراراً حتى نخلق تلك الصورة المتخيلة من جديد، وما يجهله كثيرون منّا هو أننا نرسم الماضي في أذهاننا كما نريد أن نراه لا كما كان بالفعل. ولهذا فإن كثيراً من أحاديثنا عن الأندلس وعصور الفتوحات تخلوا من النقد والتمحيص ويحصرها الناس في التغني ببديع ما خلّف الأجداد وتملأ عيوننا الحسرة على ما ضاع منّا في حين أنه في الواقع ضاع منهم! ولكننا نقع في فخ تحمل مسؤولية الفشل الذي لم نكلف أنفسنا تحليل أسبابه والبحث وراء مكوناته لعلنا نستفيد من ما تبديه لنا دوائر الزمان، يكفينا أن نقول أضاعتنا فرقتنا وأهلكنا طمعنا وانتهى الأمر، نجلس على كرسي أقدامنا في الماضي ورؤوسنا في المستقبل وأيدينا تمسك بالحاضر كضرير يتعلم الكتابة.
كيف نتعامل مع التاريخ إذًا؟
أدرس الآن “أطياف” لرضوى عاشور، وفيها يطول النقاش حول الأطياف التي تحوم حولنا وتأتي لنا بقصص الماضي وتستغرق أعمرنا في حكاياتها، وفيها كلام كثير عن ما تفعله بنا ذكريات لم نعشها وأيام لم نختبرها، تحتلنا حتى وكأننا كنا هناك، وفيها استلاب وفيها تداخل الأزمنة. ولكنها وهي تحكي لنا كل ذلك تقول لنا أيضاً بأن الماضي يبقى حاضراً طالما أن له يداً في الكرب الذي نعيشه، وبما أن الحياة تسير بمدأ السبب والنتيجة فالماضي دائماً حاضر. ولكنني وأنا أنظر إلى رضوى أو شجر أرى فيهما مَن حاول أن يتحرر قليلاً من تاريخ الهزائم القريبة التي تحيط به، وأن يتحرك في حيز اليوم الذي يعيشه لأننا ببساطة لو لم نفعل ذلك لاختنقنا منذ زمن.
علينا أن نضرب بجذورنا في التاريخ لا كي يقيدنا بل كي يمنحنا القوة والحكمة كي نتحرك ونحن نعرف أين نضع أقدامنا. وتأكدوا بأن التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن نحن من نعيده وننتظر نتائج مختلفة في كل مرة |
ونحن يا أصدقاء علينا أن نتوقف عن نظرتنا المحدودة للتاريخ وأن نتجاوز نماذجنا الخاصة، علينا أن نفهم أن تاريخ المسلمين ليس محدوداً في عمر وخالد وسعد، أن المسلمين اليوم لا يعيشون في حدود دولة الخلافة، وأن الطريقة التي يتعاملون بها مع العالم لم تكن أبداً وليست الآن قائمة على نظام المعسكَرين، نحن وهمْ.
إن فلسفتنا كمسلمين كثيراً ما تغفل الرسالة الأساسية: تحرير الناس من العبودية لغير الله وتحسين أحوال البلاد. وليست هي تلك الصورة التي ترسم لنا على مدى الحياة عن أمة مسلمة متصلة جغرافياً موحدة القيادة يقف على رؤوسها المحاربون والفقهاء. لا تبحث عن صقر قريش في شوارع نيويورك لأنه لن يعرف كيف يتصرف هناك، إن كنت ستأخذ من الأجداد قدوة فافعل كما فعلوا وابحث عن مارك وجوليا وتعلم منهما كيف تساهم في تكوينها كمسلم لا كيف تنجو منها. لقد عشنا طويلاً أمام اختيارين: إما أن نقول أولئك الصحابة والمسملون الأوائل ونحن لا نستطيع أن نأتي بما أتوا به، أو نقول أولئك الصحابة والمسلمون الأوائل وعلينا أن نعيش كما عاشوا تماماً حتى نضمن النجاة، وهما اختياران متناقضان بصورة غير منطقية، أحدهما يفترض إمكانية النسخ الكامل وآخر ينفي تماماً القدرة على المشابهة. ولأننا علقنا في هذه المعضلة لم يبق لنا إلا أن نعترف بأننا يجب أن نحاول معرفة أنفسنا بعيداً عن السعي لإعادة لإحياء الماضي، وبعيداً عن تكسير الأجنحة وافتراض الفشل حتى قبل البدء.
علينا أن نضرب بجذورنا في التاريخ لا كي يقيدنا بل كي يمنحنا القوة والحكمة كي نتحرك ونحن نعرف أين نضع أقدامنا. وتأكدوا يا أصدقاء بأن التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن نحن من نعيده وننتظر نتائج مختلفة في كل مرة.