خالد بشير
كاتب أردني
كما في سائر دول العالم الاسلامي، شهدت ماليزيا منذ استقلالها العام 1975 صراعاً على شكل حضور الإسلام في السياسة والدولة والمجال العام، وأخذ هذا الصراع أشكالاً متعددة، وظهر في ثنائية كـ”التقليد والتحديث”، و”الاعتدال والتطرف”.. فإلى أي حد كان النظام السياسي الماليزي إسلامياً أو علمانياً؟ وما هو موقع “الإسلام” في الدستور، والتشريع؟ وما هي أهم أحزاب الإسلام السياسي في ماليزيا؟
الدستور.. الإسلام دين الدولة
تتكون التركيبة السكانية في ماليزيا من 3 أعراق رئيسية، وهي: الملاويون، والصينيون، والهنود، وقد ارتبطت الهوية الملاوية تماماً بالإسلام بحيث كان أهم خصائص شعب الملايو وأهم عوامل وحدته، وبناءً على ذلك فقد عرَّف الدستور الملايو بأنّه “الشخص المسلم، الذي يتكلم لغة الملايو، ويمارس عاداتهم”، وبالتالي، ووفقاً لهذا التعريف القانوني فإنّ كل الملاويين مسلمون، وإن ابن الملايو الذي يترك الإسلام بالانتقال إلى دين آخر، لا يُعد من الناحية القانونية منتمياً إلى الملايو.
تونكو عبد الرحمن: لا مكان لدولة إسلامية في ماليزيا بشعبها ذي العرقيات والديانات المتعددة
وقد ذهب الدستور الماليزي أبعد من ذلك حين حدّد دين الدولة بأنه الإسلام، وعَدّ ملك ماليزيا راعياً للإسلام في البلد، ومنع غير المسلمين من نشر دينهم وسط المسلمين، إلا أنّ هذا التحديد لم ينبنِ عليه التزام بأحكام الإسلام والتشريعات الإسلامية، وهو ما يؤكد أنّه يأتي في إطار تحديد أوزان ونسبة الأعراق والهويات داخل الدولة، حيث يشكّل الملاويون المسلمون – منذ فصل سنغافورة العام 1969 – ما تزيد نسبته على الثلثين، فكان هذا التحديد نوعاً من التمييز لهم.
النظام العلماني حلاً للتعددية
كان الاستعمار الإنجليزي قد عمل على استقدام العمالة الصينية والهندية إلى ماليزيا منذ دخوله لها في نهاية القرن الثامن عشر، وهو ما أدى مع مرور الوقت إلى إحداث تغييرات في التركيبة العرقية، ومع استقلال البلاد العام 1957 كانت نسبة الملاويين في حدود النصف فقط، بينما كان الصينيون يشكلون ما نسبته 35%. وقد دفع ذلك إلى أن يرتكز النظام السياسي الماليزي منذ نشأته على التعاون بين الأعراق المختلفة، وهو ما تطلّب بالضرورة الاتجاه نحو العلمانية وعدم تبني شعارات إسلامية.
ولم يكن للصينيين قوة عددية فحسب؛ بل كانوا أصحاب نفوذ وقوة اقتصادية، وهكذا اضطر حزب “التنظيم القومي للملايو المتحد” إلى التحالف مع حزب “الاتحاد الماليزي الصيني”، وحزب “المؤتمر الهندي الماليزي”، لتتشكل بذلك “المنظمة الوطنية الماليزية الموحدة” المعروفة اختصاراً بـ”أومنو” (UMNO)، وبذلك تم الاتفاق على علمانية الدولة، وعلى ضمان الحريات والحقوق الدينية والثقافية لمختلف الطوائف.
يطالب الحزب الإسلامي الماليزي بتحويل البلاد إلى دولة إسلامية وتطبيق أحكام الشريعة
وكان مهندس هذه المعادلة هو رئيس الوزراء الأول للبلاد “تونكو عبد الرحمن”، والمشهور بأنه “بطل الاستقلال”، وقد نجح عبد الرحمن في بناء التحالف الحزبي من القوى الكبرى الثلاث، وهو ما شكّل أساس فكرة التوافق و”اقتسام الكعكة” بين مختلف الأعراق، ولا يزال هذه المعادلة هي الحاكمة في ماليزيا.
ويلخص تونكو عبد الرحمن نظرته إلى موضوع دينية الدولة في كتاب له صدر في الثمانينيات، حيث يقول: “أي كلام عن الدول الإسلامية هو حلم خاوٍ لا أكثر. لا يوجد رجل ذو عدل يمكن أن يرضى بدولة تبني إدارتها السياسية على الدين، فلا مكان لدولة إسلامية في دولة كماليزيا، بشعبها ذي العرقيات والديانات المتعددة”.
الحزب الإسلامي الماليزي
منذ وقت مبكر، وقبل الاستقلال بسنوات، بدا لمجموعة من العلماء والقيادات الدينية المحافظة في حزب “التنظيم القومي للملايو المتحد” بأنّ الحزب يحمل توجهات وميولاً علمانية، خاصّة أن معظم قياداته كانت قد درست في إنجلترا وتكوّنت تكويناً غربياً، وفي العام 1951 انشق التيار المحافظ من الحزب ليؤسس “الحزب الإسلامي الماليزي”، المعروف اختصاراً بـ “باس” (PAS).
ومنذ تأسيسه دعا “باس” إلى بناء دولة إسلامية تطبّق الشريعة الإسلامية في ماليزيا، حيث كانت التطبيقات القانونية الإسلامية في ماليزيا محصورة بقانون الأحوال الشخصية، وقد قوبلت توجهاته بالرفض من قبل المنظمة الوطنية “أومنو” الحاكمة، ليعتبر بذلك من أبرز الأحزاب المعارضة في البلاد، ولم ينضم الحزب إلى تحالف الجبهة الوطني الحاكم إلا لمدة وجيزة في السبعينيات، في الفترة من 1974 حتى 1978.
اتجهت حكومة حسين عون إلى احتواء الحراك الإسلامي المتصاعد خلال السبعينيات
تتركز قاعدة “باس” الانتخابية في المناطق الريفية المحافظة في شمال البلاد، وقد تمكن الحزب من حكم ولاية “كيلانتان” مرتين (1959-1977) و(1990-حتى اليوم)، كما وسبق له أن شكّل حكومات في ولاية “قدح” (2008-2013)، وولاية “تيرينجانو” (1959-1962، و1999-2004، و2018-حتى اليوم).
وقد تمكنت حكومة “باس” في تيرينجانو العام 1999 من تمرير قوانين تسمح بتطبيق الحدود، غير أن الحكومة الاتحادية العلمانية أسقطت هذا المشروع، وحالياً يملك الحزب 18 من أصل 222 مقعداً في مجلس النواب الماليزي.
السبعينيات.. صعود الإسلام السياسي
بالتزامن مع تصاعد تأثير الحركات الإسلامية في عموم العالمين؛ العربي والإسلامي خلال السبعينيات، تزايد حضور وشعبية الإسلام السياسي في ماليزيا، وكان للحالة الماليزية أسبابها الخاصّة؛ فقد تسببت عمليات التحديث والسياسات والاقتصادية الجديدة – التي بدأ تطبيقها بعد فصل سنغافورة والصدامات بين الصينيين والملاويين العام 1969 – بحدوث أزمات اجتماعية للملايو، وكان الإسلام هو الأداة التي لجأ إليها طلبة وجيل الملايو الشاب لتأكيد هويته، وقد تجسّد ذلك في تزايد شعبية “باس”، ونشأة تنظيمات إسلامية جديدة كان أبرزها “حركة الشباب الإسلامي الماليزي”، التي تأسست العام 1971، وهي الحركة التي قادها فيما بعد “أنور إبراهيم” أحد أبرز وجوه المعارضة الإسلامية في ماليزيا.
اعتمدت حكومة مهاتير محمد برنامجاً للتحديث يقوم على أساس دمج الإسلام بالحياة العامة
وقد دفع هذا الصعود حكومة “اسماعيل عبد الرحمن” إلى رفع شعارات إسلامية واستخدام عبارات إسلامية في الخطاب السياسي، وزيادة البرامج الإعلامية الإسلامية، في محاولة لامتصاص مطالب الحركات الدينية الصاعدة، ولكن التحوّل الأهم جاء العام 1974، عندما دخل حزب المنظمة الوطنية “أومنو” في ائتلاف مع الحزب الإسلامي الماليزي (باس)، وهو الائتلاف الذي وظّفه “أومنو” لاحتواء الحركات الإسلامية والمطالب السياسية المتصاعدة للملايو، بينما استخدمه “باس” للضغط من أجل مزيد من التطبيق لأحكام الشريعة، فضغط لإقامة بنك إسلامي، وزيادة عدد المدارس الإسلامية، وتطبيق “شهر الدعوة”، ومنع إعلانات الخمور، كما اتجهت الحكومة في عهد “حسين عون” إلى الانخراط في القضايا الإسلامية الدولية، واستضافة المؤتمرات الإسلامية الدولية (كمؤتمر وزراء خارجية دول منظمة المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في كوالالمبور العام 1976).
وقد نجح الحزب الاسلامي في تطبيق مثل هذه الخطوات ولكنه فشل في تحقيق هدفه الأساسي وهو دفع الحكومة إلى تعديل الدستور بما يتفق وتصوّرات الحزب بحيث يتم تحويل ماليزيا إلى دولة إسلامية.
مهاتير محمد.. اتجاه نحو الأسلمة
وصل مهاتير محمد إلى الحكم العام 1981، ورغم إنهاء الائتلاف مع حزب “باس” الإسلامي، إلا أنّ مهاتير وحزبه الحاكم “أومنو” اعتمدا برنامجاً للتحديث يقوم على أساس دمج الإسلام بالحياة العامة، بما في ذلك تعزيز القيم والهوية الإسلامية، وبناء المؤسسات الإسلامية، وخلق الروابط مع العالم الإسلامي.
وفي عهد مهاتير تم إنشاء الجامعة الإسلامية العالمية – التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي – العام 1983، كما خصصت الحكومة مبالغ لتمويل بناء وإدارة المساجد والمدارس الإسلامية، وتم التوسع في إنشاء البنوك والشركات الإسلامية، كما صدر قانون للطعام الحلال، وقانون آخر يمنع “الخلوة” بين الرجل والمرأة المسلمين، كما تأسّس قسم خاص يتبع مكتب رئيس الوزراء باسم “قسم التطوير الإسلامي”.
الإسلام الحضاري
ويُعدّ مهاتير محمد الذي تولى رئاسة الوزراء مدة 22 عاماً (1981-2003)، “بطل الازدهار” في ماليزيا، حيث قفزت البلد في عهده قفزات هائلة، خصوصاً في جوانب الاقتصاد، والتعليم، والبنية التحتية، والخدمات، والسياحة، كما نجح في تجاوز أخطر أزمة اقتصادية مرت بها البلاد في تاريخها العام 1998.
وخلف مهاتير في منصبه “عبدالله أحمد بدوي” حتى العام 2009، وتابع خلال سياسة هذه المدة سلفه مهاتير، وسعى لتعزيز الشفافية ومحاربة الفساد، وعمل على تقديم رؤية إسلامية بعنوان “الإسلام الحضاري”، النموذج الذي سعى لتقديمه في مواجهة التشدّد الإسلامي والشعارات التقليدية التي يرفعها “الحزب الماليزي الإسلامي” (باس)، الحزب المنافس لـ”التنظيم القومي للملايو المتحد” على كسب أصوات الملايو، وأصبح “الإسلام الحضاري” عنواناً لمشروع الجمع بين القيم الإسلامية وتحقيق التقدم الاقتصادي.
وسرعان ما بدأ نموذج “الإسلام الحضاري”، والقائم على الجمع بين الديمقراطية والتقدم الاقتصادي والقيم الإسلامية، باجتذاب جانب من الحركات الإسلامية حول العالم، حيث بدأوا بقراءة التجربة الماليزية في عهدي مهاتير وبدوي والدعوة إلى اتباعها.
المصدر حفريات