خالد بشير
كاتب أردني
بعد كلّ هجوم إرهابيّ، أو جريمة كراهيّة، تتسارع ردود الفعل والتعليقات، ويظهر مدى الخلاف والتباين بينها بخصوص تحديد الأسباب المسؤولة عن الفعل المُدان؛ بل وتتحوّل الحادثة، في كثير من الأحيان، إلى وسيلة يستخدمها ويستدل بها كلّ تيار فكري في مواجهة خصومه.
في هذا التقرير إجمال لعدد من الأسباب، النفسية في غالبيتها، التي تحظى بأكبر قدر من الإجماع، وتمتلك قدرة أعلى على تفسير تبني العنف أو الانخراط في جماعات متطرفة.
إحساس بالعجز
من ناحية نفسيّة، سيكولوجيّة، وكما يحاجج عالم التحليل النفسي الألماني، كارل يونغ، في نظريته عن “اللاشعور الفردي”؛ فإنّ الشعور بالإحباط والكبت يفسر جانباً كبيراً من سلوك الفرد، ويترسخ شعور الإحباط بفعل الإحساس بالعجز المستمر عن تحقيق الرغبات والأهداف التي يطمح الفرد لتحقيقها واكتسابها، وبالتالي يبرز خيار التطرف والعنف هنا، كأسلوب تعويضي وسبيل أخير لتجاوز حالة الكبت والفشل المستمر، كما يبيّن “يونغ” في تحليله للبنية النفسيّة للنازيّة؛ فإذا كانت المنظومات السائدة لا توفّر للمرء إمكانية تحقيق رغباته؛ فإنّه يصبح عازماً على الذهاب إلى أقصى حدّ، والخروج إليها واستبدالها من جذورها.
هرباً من اللا يقين
وبالحديث عن دور العامل النفسي، يشير أستاذ علم النفس الاجتماعي، البريطاني مايكل هوغ، إلى مسبب آخر للانخراط في جماعة تتبنى العنف، وهو يتعلق بتزايد شعور الفرد في المجتمعات الحديثة بـ “اللا يقين”، وبحسب هوغ؛ فعندما يمر الفرد بظروف يزداد فيها شعوره باللا يقين إزاء ذاته والمجتمع والعالم من حوله، فإنّه يفضّل عندها الاتجاه نحو الانخراط ضمن مجموعة متماسكة تكون متبنية لمنظومة مغلقة من الأفكار والمعتقدات، يتشاركها الأفراد فيما بينهم، وهو ما يتحقق في الجماعات المتطرفة عموماً، والمتطرفة الدينيّة خصوصاً، التي تقوم على الاعتقاد بأيديولوجيا واضحة وبسيطة، كما أنّها تتمتع بدرجة عالية من التماسك والترابط، وأهدافها واضحة، وعدوّها واضح، وبالتالي تكون أقدر على تبديد حالة اللايقين.
شعور بالحرمان
عند تفسير السلوك المتطرف والعنيف يبرز دائماً دور العامل الاقتصادي – النفسي، المتمثل أساساً بشعور المرء بالحرمان، على نحو دائم ومتراكم، وهذا الحرمان لا يكون بالضرورة حرماناً مطلقاً؛ حيث يكون المرء معه يعيش في حالة معدمة ويقاسي أشدّ حالات الفقر والعوز، وإنما هو في الغالب “حرمان نسبيّ”، يأتي في ضوء المقارنة الدائمة مع ما لدى الآخرين.
يتصاعد الإحساس بهذا النوع من الحرمان مع تزايد شدّة مستوى التفاوت في توزيع الثروات، واتساع الهوّة على مستوى أنماط الحياة؛ حيث تكون هناك شرائح داخل المجتمع تعيش مظاهر رفاه وترف، بينما تقاسي فئات أخرى داخل المجتمع والمدينة ذاتها في سبيل تحصيل قوت يومها، وتكون محرومة باستمرار من التمتع بأيّة كماليّات، وكذلك على المستوى العالمي؛ فمع انتشار وسائل الاتصال يتزايد الشعور بمدى التفاوت في العيش بين الشعوب والمجتمعات.
ومع الشعور بمدى الحرمان، واستحالة التدارك، تتعزز لدى بعض الأفراد الرغبة في الانتقام، والتي قد تترجم، في حال اجتماع مجموعة من الظروف والعوامل المهيّئة، إلى السلوك العنيف.
انسداد الآفاق
تتشكّل المجتمعات الحديثة من منظومة معقّدة من المؤسسات والقنوات الاجتماعية والسياسية المتداخلة، وينخرط الأفراد في هذه المؤسسات ويمارسون حضورهم داخل المجتمع والنظام السياسي من خلالها، وبقدر ما يتعزز مستوى المشاركة داخل هذه المؤسسات بقدر ما يشعر الفرد بقيمته وقدرته على التأثير داخل المنظومة، أما في حال شعوره بفقدان القيمة وعدم قدرته على إحداث التغيير وتحقيق ما يرتئيه من حلول للوصول إلى واقع أفضل، عبر القنوات التي توفّرها المؤسسات والمنظومات الاجتماعيّة والسياسيّة السائدة، وذلك كنتيجة لطغيان حالة الاستئثار وانحصار السلطة في أفراد ومستويات عُليا من المجتمع، فإنّ بعض الأفراد من المتحمسين لإحداث التغيير قد يلجؤون إلى خيارات وسبل أخرى من خارج الأطر والقنوات المتوفرة.
ويؤكد الدكتور غيضان السيد علي، أستاذ الفلسفة الحديثة والفكر العربي المعاصر في جامعة بني سويف بمصر، في حديثه لـ “حفريات”؛ أنّ “طبيعة أنظمة الحكم من أهم الأسباب التي تدفع للانخراط في جماعات العنف؛ فالأنظمة الاستبدادية وغياب كلّ أفق حواري أو ديمقراطي يجعل الفرد يشعر بأنّ العنف هو الوسيلة الوحيدة للتغيير”.
وبسبب اتساع الهوّة بين تصوّرات هؤلاء الأفراد عن الواقع المنشود وما يعيشونه من واقع لا يساهمون في صناعته وتشكيله، تتطوّر لديهم الرغبة بإحداث تغيير شامل، وعلى دفعة واحدة، وهنا يكون اللجوء إلى العنف سبيلاً لإحداث هذا النوع من التغيير، بفعل رسوخ التصوّر بأنّ الوصول للواقع المأمول يكون عبر هدم ما هو سائد.
ويشير غيضان إلى أنّ “المرحلة العمريّة تلعب دوراً كبيراً، وخصوصاً في مرحلة الشباب، مرحلة الحماس والاندفاع والأحلام الطوباوية لتغيير العالم وتحويله إلى مجتمع يوتوبي، فعندما تتحطم أحلام هذا الفتى المندفع على صخرة الواقع، يرى في استخدام العنف الوسيلة المثلى لتحقيق أحلامه ومطامحه التي يراها نبيلة وضرورية لإسعاد العالم، فيبدأ بالبحث عما قد يساعده لتغيير العالم بالقوة، وهنا يصبح فريسة سهلة لجماعات العنف”.
الشعور بفقدان المعنى
مع تزايد سيطرة منظومة القيم الفردانيّة ومنظومة الاستهلاك، في المجتمعات الرأسماليّة الحديثة، وفقدان القيم الجماعيّة وسلوكيات التشارك التي ألفها البشر طوال عصور، مقابل زيادة مظاهر الاستعراض واقتران قيمة الفرد الاجتماعيّة بمقدار ما يملك ويستهلك، في “مجتمعات الفُرجة” كما أطلق عليها عالم الاجتماع الفرنسي، غي ديبور، كلّ ذلك يؤدي إلى تزايد وتيرة فقدان الإحساس بالمعاني والقيم والتجارب الجماعيّة المشتركة.
في ظلّ ذلك تتبلور ردّة فعل عند بعض الأفراد في إطار محاولة البحث عن معنى أكثر عمقاً وثراء، والتي قد تأخذ أشكالاً ومساعي عديدة، ومنها ما يأخذ شكل التطرّف؛ حيث تبدو الأيديولوجيات الفكرية والدينية ذات البناء الصارم، كفضاء لتزويد الفرد بمنظومة اعتقادات بديلة تغنيه عن حالة فراغ المعنى التي يعاني منها في المجتمع الاستهلاكي من حوله.
في مواجهة نظام عالمي
يشير الفيلسوف الفرنسي، جان بودريار، في كتابه “روح الإرهاب”، إلى أسباب أخرى تتعلق بمستوى أبعد، وهو مستوى النظام العالمي، ببعديه: السياسي والاقتصادي، ومن وجهة نظره؛ فإنّ “الإرهاب” هو في جوهره نتيجة وشكلاً من أشكال الاحتجاج على بنية التفاوت في القوة والثروة على مستوى العالم؛ حيث يكون وقود هذه الظاهرة المقيمين في الجانب الأضعف من العالم.
ويتقاطع تحليل بودريار مع تحليل فرايزر إيغرتون، في كتابه الذي صدرت ترجمته بالعربية، عام 2017، “الجهاد في الغرب”، وبالتحديد إشارته إلى مدى اعتماد السلفية الجهاديّة على هوية “المسلم المظلوم” في هذا العالم، والذي يتعرّض لكلّ أنواع الاضطهاد بكلّ مكان.
وبحسب عالم السياسة الفرنسي، أولفيه روا؛ فإنّ الخطاب الجهادي المتطرف اليوم، ينبني على استثمار حالة الاضطهاد؛ فالمتطرف في خطابه يمحو نفسه ويقدم رسالته على أنّها نابعة من معاناة الآخرين، ويرى روا أنّ هذه الظروف المؤلمة المحيطة بالجهاديين (خاصّة ظروف منطقة “الشرق الأوسط”) كانت سبباً رئيساً في صعود تنظيم داعش؛ الذي قدّم نفسه على أنّه نصير المعذبين في الأرض، وهم المسلمون عموماً، والمسلمون السنّة في الشرق الأوسط تحديداً.
ويتحدث روا، في كتابه الصادر عام 2016، “الجهاد والموت”، عن شكل ومفهوم جديد للعنف، يسمّيه “العنف الجيلي”، وهو ينبني على محصلة جميع ما تقدّم من أسباب، ويحاول روا من خلال هذا المفهوم الجديد تقديم أطروحة مفادها؛ أنّ ما يهمّ الجيل الجديد من المتطرفين (الجهاديين تحديداً) هو التمرّد المحض، وليس بناء مجتمع مثالي، كما كان لدى الأجيال الأولى؛ فالعنف أصبح هو الغاية، ولم يعد وسيلة لتحقيق أهداف أسمى.
المصدر حفريات