غسان عبدالخالق
كاتب أردني
قبل التصدّي لمعاينة مفهوم وملامح (الشعبوية)، لا بد من تمييزها عن (الأدب الشعبي) الذي يعدّ حقلاً حيوياّ من حقول الآداب العالمية. ويقصد به الأمثال والحكايات والأهازيج العامية التي تنطوي على العديد من السمات والعلامات الفارقة شكلاً ومضموناً. ولعلّ من المفيد على هذا الصعيد تذكير القرّاء بحقيقة أنّ ابن خلدون هو أول مفكّر وناقد وأديب عربي يُفرد اللهجات العامية وآدابها بالرصد والتمييز والتحليل، دون أن نقلِّل في الوقت نفسه، من أهمية الإشارات التي أوردها الجاحظ على صعيد ما يمكن للّهجات والآداب العامية أن تختزنه من إمكانيات بلاغية.
وأما (الشعبوية) المقصودة بالطلب في هذا المقال؛ فهي نزعة في التفكير والتعبير والسلوك، وقد أصبحت تياراً نافذاً في العديد من الأقطار، وعلى امتداد الكرة الأرضية. ولا نبالغ إذا قلنا إنّها تمثل الآن أحد أبرز سمات ما بعد الحداثة التي تجتاح العالم دون رحمة؛ فهي لا تتمايز عن كل ما هو (رسمي) شكلاً ومضموناً، كما هو حال الأدب الشعبي، ولكنها تتعمد التصادم مع كل ما هو (رسمي) عبر التهكم والاستهتار أو التمرّد، حقيقة أو رمزاً.
ولست بحاجة للتنويه بأنّ مصطلح (الرسمي) الذي أوردته آنفاً للدلالة على كل ما هو مستهدف من المنظور الشعبوي، لا يعني (الحكومي)! بل يعني المبجّل والمرسّخ والمتّفق عليه بين الناس؛ إذ ينضوي تحت هذا المصطلح: الأدب الرفيع مثل المعلّقات وشعر المتنبي ومحمود درويش، والفن الرفيع مثل أغاني محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفيروز! لأنّ الشعبوي يضيق بكل ما هو (كلاسيكي) سواء أكان فصيحاً أو عامياً، ولا يدّخر وسعاً لتقويضه عبر تسخيف جدّيته وتسطيح معناه وتبديد هالته المتزايدة بمرّ السنين.
وإذا كانت الشعبوية تمثل أبرز سمات ما بعد الحداثة، فإنّ الفوضوية الصادمة تمثّل أبرز ملامح الشعبوية، وخاصة على صعيد الأزياء ومعجم الألفاظ في الأغاني والأشعار؛ إذ ثمة إصرار على تحطيم النسق المتعارف عليه بين الناس بخصوص الهيئة العامة (البزّة وربطة العنق والشعر المصفّف)، عبر الإصرار على نكش الشعور أو حلقها أو صبغها والميل الشديد إلى ارتداء الملابس الممزّقة والمهلهلة. وأما بخصوص الأدب والفن، فثمّة إصرار على استخدام وتكرار الألفاظ البذيئة والمبتذلة والاستهزاء بالأساليب المعتادة في المخاطبات العامة. ومما لا ينسى على هذا الصعيد، ما قاله الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما (على الرفاق أن يرفعوا سراويلهم)! وذلك تعليقاً على انتشار ارتداء السراويل المرخاة بين الشباب الأمريكي، تقليداً لنزلاء السجون الذين يُحظر عليهم استخدام الأحزمة فتظل سراويلهم مرخاة!
ومع أنّ الشعبوية تميل إلى تعزيز الثقافة الشفوية المسموعة أو المرئية، ما يفسر الاتجاه المتزايد لدى المشاهدين إلى متابعة المسلسلات المدبلجة حتى لا يتجشّموا عناء قراءة ومتابعة شريط الترجمة، إلا أنّها مولعة بالكتابة على الجدران البارزة للعيان أو داخل الأنفاق وحتى داخل دورات المياه العامة! ومن الملاحظ أنّ هذه الكتابة تتسم بالعنف عموماً وبالتركيز على الجنس من حيث المضمون. وأما من حيث الأسلوب فهي تميل إلى استخدام معجم يعج بالألفاظ المكشوفة الصادمة المقصودة؛ لأن إحداث (الصدمة) لدى المتلقي يعد هدفاً رئيساً لدى الشعبويين.
وللنزعة الشعبوية قدرة فائقة على اختراق تيارات موازية ومباينة لها ومن ثم الاختباء خلفها؛ إذ قد تقدم نفسها أحياناً تحت مسمى (البساطة) أو (العودة إلى الجذور) أو (حماية الطبيعة)، ما يدفع ببعض التيارات السياسية أو السياسيين، إلى التقرّب منها حرصاً على الظهور بمظهر (شعبي)، كما يدفع ببعض المثقفين والفنانين إلى حقن أعمالهم بجرعة من (السّوقيّة)، وذلك من باب المجاراة لهذه النزعة. وقد قُيّض لنا أن نستمع خلال السنوات القليلة الماضية إلى عدد من السياسيين الذين يمثلون اليمين السياسي المتطرف، وهم يدلون بتصريحات صادمة على صعيد إدانة المهاجرين والأقليات ووصم الفقراء بالتكاسل، ما يؤكد العلاقة الوطيدة بين النزعة الشعبوية وفلسفة القسوة عند نيتشه من جهة، وفلسفة البقاء للأقوى عند دارون.
كما تتداخل النزعة الشعبوية على نحو أكثر بروزاً مع التيارات السياسية المتعصّبة، وطنياً أو إقليمياً أو جهوياً أو طائفياً؛ حيث يشيع بين أفراد هذه التيارات استخدام الألفاظ المكشوفة والتحدث عن الآخر بسوء خلق. وبطبيعة الحال فإنّ مشجعي الأندية الرياضية في كثير من أقطار العالم، يكادون يحتكرون قصب السبق على صعيد الدفع بالنزعة الشعبوية إلى أقصى حدودها الممكنة، جرّاء إصرارهم على الظهور بأشكال بدائية صادمة، أو الحرص على إطلاق هتافات مستفزة لخصومهم، تمثل الألفاظ المكشوفة والدلالات الجنسية فيها الجامع المشترك.
وأما على الصعيد الاقتصادي فحدّث ولا حرج؛ إذ تكاد كل إعلانات المصارف وشركات الاتصال بوجه خاص، تتجه إلى مخاطبة الزبائن بلهجة عاميّة، ولا تتورّع (أحياناً) عن استخدام عبارات ذات دلالات وإيحاءات مكشوفة، حرصاً منها على المزاوجة بين دافع الامتلاك من جهة ودافع الغريزة من جهة أخرى.
ولو كان المقام يسمح بإيراد نصوص بعض الإعلانات التجارية (الملغومة)، لأوردتها وأخضعتها للتحليل المضموني من منظور علم النفس الفرويدي!
ولا بأس في إطراف القارئ العزيز بمثال ختامي يمور بالعديد من المفارقات الصادمة؛ فلم يعد خافياً أنّ بعض مفردات المائدة الشعبية تتصدّر الآن واجهة هذه النزعة؛ حيث حُوِّلت بعض الأطباق والأشربة زهيدة الثمن، إلى وجبات وعبوات جاهزة يتهافت على التهامها واحتسائها ملايين الناس، بعد أن أحيطت بهالة من الحنين إلى الماضي الذي لم يسلم أيضاً من التسليع، فغدا خط إنتاج شعبوي قائم بذاته.
والمضحك المبكي في هذا المثال الختامي، أنّ الطبقات الشعبية التي ابتكرت وطوّرت هذه الأطباق والأشربة عبر مئات السنين، لم تعد قادرة على الوفاء بأثمانها التي لا تتجاوز حدود استعادة الكلفة الحقيقية الزهيدة فقط، بل تصل حدود استيفاء كلفة الاسم التجاري. كما أنّ المستهلكين الرئيسيين لهذه الأطباق والأشربة ينتمون إلى الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة التي حوّلت خطوط الإنتاج هذه إلى هيستيريا جماعية على مدار ساعات الليل والنهار، دون أن تنسى استدعاء كل ما يلزم أو يرافق هذه الهيستيريا من مستلزمات لفظية أو فنية. وإذا نظرنا بعين الاعتبار إلى حقيقة التسريع الهائل الذي تضطلع به وسائل التواصل الاجتماعي؛ سياسياً واقتصادياً وثقافياً، صار في مقدورنا تخيُّل حجم التبادل والتداخل للآثار الناجمة عن تغلغل النزعة الشعبوية في كثير من المفاصل الحيوية في مجتمعاتنا العربية.
نقلاً عن حفريات