حسين الحاج حسن
أثبتت التجارب التاريخية عموماً، والحديثة منها على وجه التحديد، المرتبطة بنشأة تنظيمات سياسية، ذات أهداف ومساعٍ اجتماعية، فكرية، قومية، دينية، وعقائدية، أن نجاحها في الاستمرار والبقاء متعلق بشكل جذري بما تقدمه من مساعدات اجتماعية، خيرية وإنسانية، والمناداة بحقوق الشعوب والطبقات الكادحة والمهمشة، كما ورفع راية منع الظلم والاستغلال.
الأمثلة على ذلك عديدة ولا تنحصر بحقبة واحدة من التاريخ، منها ما أسسه الفكر الشيوعي، الى حركة “نمور التاميل”، الى الحركات الانفصالية، اليسارية، والمناهضة للرأسمالية والنظام العالمي في عدد من الدول.
إنما يبقى تنظيم “حزب الله اللبناني” المثال الأبرز والأنجح في كيفية استخدامه شعارات وأهدافاً، تبدو في الظاهر ذات نوايا حسنة، نحو خدمة المجتمع ومساعدة المحتاجين، أو المناداة بتحسين ظروف الأقليات المهمشة.
وقد عمل “حزب الله” ولا يزال منذ التأسيس على تطوير برنامج العمل الاجتماعي ضمن برامج عديدة وفي مناطق مختلفة من لبنان، تفوّقت الى حد كبير على كل البرامج الاجتماعية والخيرية التي قامت بها الحكومات اللبنانية المتعاقبة.
ورغم فعاليته، فإن الحفاظ على هذا الحيّز من العمل الاجتماعي لدى “حزب الله” يتطلّب تخصيص موازنات سنوية وأموالاً طائلة باستمرار، وتشير التقديرات في هذا السياق الى أن الخدمات الاجتماعية المقدّمة تشكّل نحو 50 في المئة من موازنة الحزب السنوية.
في أحد خطاباته يصف نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم، الغرض والهدف الأساسي من الخدمات الاجتماعية بالتالي:
“أولى حزب الله اهتماماً خاصاً للعمل الاجتماعي، ولم يتم إهمال جانب واحد من جوانب مساعدة الفقراء حيث عمل الحزب على تحقيق المسؤولية الاجتماعية المشتركة وتلبية الاحتياجات الملحة وإدخال البرامج المفيدة. كان هذا العمل يعتبر ببساطة واجباً للحزب، وساعدت الجهود المركّزة من جمع الأموال وإتاحة موارد الخدمة الاجتماعية في تحقيق هذه الأهداف. كما وعمل الحزب بكل ما في وسعه متعاوناً مع المؤسسات الرسمية للاستجابة لاحتياجات المجتمع”.
بالعودة الى التاريخ، كانت المنظمات الإرهابية تعمل على استخدام قنوات غير مشروعة أو سرية لجمع الأموال وتحويلها خدمةً لمشاريعها ولتمويل أهدافها، ما يجعل العملية معقّدة كما ومحفوفة بالمخاطر. ومع ذلك، فقد استطاع “حزب الله” منذ التأسيس جني الأموال الطائلة من خلال تطوير أي مسعى ربحي، داخلي أو عالمي.
كانت البنية الأساسية لعمل الحزب في هذا المجال تقوم على ثلاثة أفرع مترابطة وقوية ساهمت في تكوينه وضمان استمراريته، وهي الجناح السياسي، الجناح العسكري/ القتالي والجناح الاجتماعي. وبعكس ما يعتقد البعض، فإن الجهود التي بذلها الحزب على الشق الاجتماعي كانت وما زالت الأولية من أجل الحفاظ على بيئته واستمالة تعاطف الجمهور والرأي العام حوله.
هذه الرؤية وبنية العمل، قام “حزب الله” باستنساخها وتطويرها بحسب نموذج عمل الحركات التمردية/ الإرهابية مثل حركتي ماو تسي تونغ (Mao Zedong) وتشي غيفارا. ولمن لا يعرف، ماو تسي تونغ هو المؤسس لدولة الصين الشعبية ومن القادة الشيوعيين الأوائل بعيد منتضف القرن الماضي.
تنعكس مراحل ماو الثلاث من حرب العصابات في الفروع الثلاثة التي بناها “حزب الله”. ففي المرحلة الأولى من النموذج، وهي الأكثر أهمية، يعمل التنظيم على بناء قاعدة دعم أيديولوجي شعبية أو كما هو الحال في نموذج “حزب الله” من خلال قسم الخدمة الاجتماعية.
المرحلة الثانية تكون عبر الاشتباك والانخراط في حرب عصابات تحت عناوين مقاومة الظالم، وزيادة حجم خبرة العسكر استعداداً للمرحلة النهائية، ويشغل الجناح العسكري لـ”حزب الله” هذا الدور.
المرحلة الثالثة والأخيرة تكون عبر تنفيذ حملة عسكرية وسياسية تقليدية تهدف الى السيطرة الكاملة على كل مفاصل السلطة والحكم، يحقق “حزب الله” ذلك الهدف عبر جناحه السياسي.
إن أيديولوجيات ماو و”حزب الله” في ما يتعلق بالبنية التنظيمية متشابهة إلى حد كبير، اذ تميزت “فترة تأسيس” الحزب بإقامة قاعدة دعم مناسبة وحشد عسكري لمقاومة الوجود الإسرائيلي في لبنان.
يصف ماو أهمية القواعد الداعمة الشعبية في كتاباته العسكرية بالتالي: “من دون مثل هذه القواعد الإستراتيجية، لن يكون هناك ما نعتمد عليه في تنفيذ مهامنا الأساسية أو تحقيق هدف الحرب، فمن سمات حرب العصابات وراء خطوط العدو أنها تخاض من دون خلفية، لأن القوات العسكرية منفصلة عن العمق العام للبلاد. ومع ذلك فإن حرب العصابات لا يمكن أن تستمر طويلاً أو تنمو من دون قاعدة شعبية أساسية”.
من أجل تأمين استمرارية تدفّق الأموال اللازمة للحفاظ على الخدمات الاجتماعية، لم يوّفر “حزب الله” جهداً إلا وعمل عليه من قبول تجارة المخدرات أو تبريرها، الى الإتجار بالبشر والتهريب عبر الحدود وعمليات الابتزاز على غرار المافيا أو أي نشاط غير قانوني آخر قد يؤمن له ربحاً.
عملياً، يعتمد “حزب الله” على أربعة مصادر أساسية لتمويل مشاريعه الى جانب الموازنة السنوية المخصصة له من النظام الحاكم في إيران وهي: الدعم الحاصل عليه من اللبنانيين المغتربين، الأنشطة غير القانونية العابرة للقارات، الأموال التي يحصلّها عبر ما يسمى فريضة الزكاة، وأخيراً أموال المنظمات الخيرية.
وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن المغتربين اللبنانيين كانوا ولا يزالون أكبر مصدر تمويل لـ”حزب الله” الى جانب النظام في إيران. ففي عام 2003 على سبيل المثال، أدى تحطم طائرة مدنية غادرت كوتونو في طريقها إلى بيروت، الى مقتل عدد من الأشخاص الداعمين للحزب، كانوا يحملون على متن رحلتهم ما يقدر بمليوني دولار نقداً، وهو ما كان يعتبر مساهمة منتظمة من المغتربين الذين يعيشون في غرب أفريقيا.
على صعيد آخر، يشكل النشاط الإجرامي مصدر دخلٍ رئيسيٍاً آخر للحزب، ومن الأمثلة على ذلك الأنشطة غير القانونية الأساسية التي تشمل الاتجار بالمخدرات، انتهاك حقوق النشر والاشتراك بعمليات التهريب العالمية، كذلك فإن الحزب قد ينخرط في أي مسعى غير قانوني يدرّ عليه ربحاً من تهريب السجائر بين الولايات الى سرقة وإعادة بيع حليب الأطفال.
ولا تقتصر نشاطات “حزب الله” الإجرامية على ما سبق ذكره، فالتنظيم أيضاً عمل على فتح شركات وهمية في مناطق التجارة الحرة في كل أنحاء أميركا الجنوبية بما في ذلك كولومبيا وتشيلي. فارتبط اسم أنصاره خلال السنوات المنصرمة بأنشطة مثل تهريب المخدرات في فنزويلا، كولومبيا والأورغواي، حيث تقدر الأرباح السنوية في تلك المناطق بما يتراوح ما بين 200 الى 500 مليون دولار.
الى جانب أميركا الجنوبية، يقوم أنصار الحزب بتنفيذ نشاطاتهم في دول غرب أفريقيا، لما تتمتع به مناطقها من مساحات شاسعة من الأراضي غير الخاضعة للحكم وعدم الاستقرار السياسي والمستوى المرتفع من الفساد والحد الأدنى من إنفاذ القانون. وتشير التقارير الى أن “حزب الله” جمع ملايين الدولارات من خلال تجارة الألماس غير المشروعة على سبيل المثال، وتتركز تلك النشاطات في دول مثل سيراليون، ليبيريا، والكونغو.
تدرّ فريضة الزكاة – وهي المصدر الثالث من التمويل – مبالغ كبيرة على الحزب ومعظمها يأتي من السكان المحليين او المغتربين، وهم من أنصار “حزب الله الشيعة” الذين يلتزمون التبرّع بنسبة 2.5 في المئة من صافي ثروتهم للأعمال الخيرية تنفيذاً لفريضة دينية موجبة عليهم.
اما المصدر الرابع والأخير من التمويل الذي يعتمده “حزب الله” أيضاً بشكل أساسي ومتسمر فهو الجمعيات الخيرية التي تورد للحزب الملايين من الدولارات، وتوفر مستوى كبيراً من الشرعية والتستر على أنشطته الفعلية.
فمنذ انطلاقة الحزب، تم إنشاء العديد من المنظمات كما تم احتواء منظمات أخرى عبر خداع المانحين في ما يتعلق بالنوايا الحقيقية لتلك المنظمات.
عرف العديد من المنظمات الدولية التي قامت بتقديم الدعم المالي لـ”حزب الله”، كما وضع عدد آخر منها على لوائح العقوبات، ومنها على سبيل المثال في الولايات المتحدة، منظمة “دعم المقاومة الإسلامية”، “مؤسسة علوي الخيرية”، “منظمة الدعم التربوي”، “منظمة النوايا الحسنة الخيرية”، و”مؤسسة الشهيد”. كذلك جمع “حزب الله” الأموال في أوروبا من خلال منظمات تحت اسم “لجنة الرعاية اللبنانية”، مؤسسة HELP، و”جمعية الأبرار”.
تبقى الحلقة الأصعب في عملية تمويل نشاطات “حزب الله” هي في طريقة نقله الأموال وتحويلها دولياً وإقليمياً من دون أي تعقب او مراقبة، لذا عمد الحزب الى استخدام ثلاث طرق أساسية للتحويل وهي الصيرفة الإسلامية، نظام التحويل غير الرسمي للقيمة أو الحوالة، وغسيل الأموال العابر للقارات. وعادة ما يمنح غسيل الأموال “حزب الله” الوسيلة الأهم لنقل مبالغ كبيرة من دون أن يتم اكتشافها أو معرفة طريقة كسب المال، فينشئ أنصار الحزب شركات وهمية وحسابات عالمية متعددة، يستغلون بها منظمات غير حكومية (NGO) أو خيرية لنقل الأموال وتبييضها.
بعد عملية جمع الأموال ونقلها الى لبنان، يتم توزيعها عبر الوحدة المالية وبتوجيه صارم من مجلس الشورى للحزب الذي يتمتع بالسيطرة الكاملة على عملية توزيع الأموال وإدارتها.
خلاصة القول، يبدو أن هدف إيران الاستراتيجي المتمثل في إقامة دولة إسلامية في لبنان هو أمرٌ قابل للتحقيق ولو بكلفة باهظة، ولكنه يبقى فعالاً ومنتجاً. كما يمكن القول إن نموذج “حزب الله” كتنظيم لا يمكن تصديره كما هو بسبب الظروف الفريدة التي ساهمت في نشأته ويصعب تكرارها، ومع ذلك، فإن المستفيدين الأساسيين من النموذج يتبعون جميعاً نمطاً مشابهاً يوازن بين دعم السكان المحليين تليه حرب العصابات لتنتهي بثورة سياسية.
نقلاً عن “النهار العربي”