محمد علواني
مثَّلت حادثة مقتل فتاة المنصورة، ومن ورائها الفتاة الأردنية ثم فتاة الزقازيق، على يد من يدعي أنه يحبها انقلابًا في نسق العلاقات الحُبيَّة؛ فلسنا أمام حالة يموت فيها المحب دفاعًا عن حبيبه أو يستشهد طواعية في سبيله، وإنما أمام شخص قرر أن يستأثر بمحبوبه عبر قتله والقضاء عليه.
حتى لكأنه يتمثَّل، فيما يبدو، قول أبي فراس الحمداني «إذا متُ ظمآنا فلا نزل القطر». وبإمكان أي متأمل حصيف أن يقف مذهولًا أمام هكذا حوادث؛ فما تفتق ذهن أحد من علماء الاجتماع من قبل عن هذه الفكرة – أن يقتل المرء شخصًا يدَّعي أنه يحبه – حتى إن إيفا إيلوز وهي تتحدث في كتابها «لماذا يجرح الحب»(1) لم يخطر ببالها أن يكون الحب جارحًا إلى درجة القتل.
بل إن أشنع ما تصوره تيري إيجلتون وهو يصدِّر كتابه عن الشر(2)، أن يقتل الأطفال بعضهم، وقد أقام كتابه برمته، متوسلًا أمثلة من الأدب القديم والحديث على حد سواء، على حادثة قتل فيها أطفالٌ رفيقَهم، لكن الأطفال كائنات ما قبل اجتماعية، لم يتم ختمها بختم المجتمع، ولم تحصل بعد على شيفرتها القيمية والأخلاقية، فكيف بمن عرف كل ذلك، وأصر على قتل حبيبه؟
وأحرى بنا أن نشير، كي نكون موضوعيين في الطرح، إلى أن التاريخ البشري، في طور طفولته، قد عرف بعض حالات التضحية بالأبناء، أو حتى بأحد أعضاء الزمرة الاجتماعية(3)، لكن الفرق بين حالات العنف تلك وحالة العنف التي نحن بصددها إنما يتمثل في أنها كانت ذات طابع اجتماعي (غيري)، أي محاولة تجنيب بقية الجماعة العنف، ولكن حوادث قتل الفتيات الأخيرة كان دافعها ذاتيًّا في المقام الأول.
مثلث الرغبة ودافع الجريمة
وبعيدًا عن هذا الإرث النظري، الذي وللأسف لن ينفعنا بشيء هنا مهما توسلنا به لفهم ما حدث، لنطرح السؤال الأكثر حسمًا وإحراجًا أيضًا: ما الذي يدفع المرء ليقتل من يحب؟ ما هو الدافع الذي يؤدي بك إلى قتل حبيبك؟
ثمة سببان، شرط أن نستبعد الأسباب التي تحيل إلى المرض أو الاعتلال النفسي أو مشكلات الطفولة، وهي أسباب غير اجتماعية إلى حد ما، كما أن بإمكان إيفا إيلوز أن تقدم مرافعة مطولة ضد التبجح بمثل هذه الأسباب غير الاجتماعية في تحليل ظاهرة (كالحب) اجتماعية في المقام الأول، هذان السببان هما: المنافسة والرغبة في الاستئثار.
فلو صدَّقنا أن هذين القاتلين، قاتل فتاة المنصورة وقاتل الفتاة الأردنية، يحبان بحق ضحيتيهما، فمن الممكن القول إن الخوف من منافسة الآخرين لهما على الاستئثار بحبيبتيهما هو ما دفعهما إلى إفناء حياتهما تمامًا، عملًا بقول أبي فراس السالف الذكر «فلا نزل القطر»، فما دمتُ لن أظفر بحبيبي فلن أدع أحدًا آخر يظفر به.
هنا يمسي للحب -إن سمينا هذا حبًّا- وجهًا إرهابيًّا متطرفًا دمويًّا، فتجربة حب شوهاء كهذه يمكن أن تؤدي إلى قتل متعمد.
والحق أني كنت أرى -ولا زلت- أن الحب تطرفًا من نوع ما، ما دمت أفهم أن الحب كما التوحيد اختزال الكل في واحد، لكن ما جال بذهني من قبل قط أن يحيل الحب إلى القتل.
هذه المنافسة على قلب المحبوب تحيل إلى رغبة أخرى، هي «الاستئثار بالمحبوب» أو امتلاكه، ومتى كان الحب امتلاكًا؟
ولقد كان رينيه غيرار(4) على قدر كبير من الذكاء حين أشار إلى أن الأمر لا يقتصر على راغب ومرغوب فيه بل ثمة طرف ثالث يؤجج الرغبة ويلقم نارها حطبًا وهو المنافِس. فالأمر غير محصور في شخص يرغب وآخر مرغوب فيه، وإنما ثمة طرف ثالث – قد يكون شخصًا أو مجموعة أشخاص – يرغب في نفس ما ترغب فيه أنت نفسك.
هذا الطرف الثالث قادر على أن يحيل حياتك جحيمًا مقيمًا، فالغيرة ليست سوى أدنى آثار وجود هذا المنافس، وإنما قد تعاني أيضًا من نوبات ضيق، ضجر، قلق … إلخ؛ لأنك تخشى أن يستولى منافسك على حبيبك. حتى لقد يتحول قلب المحبوب إلى مغنم أو ساحة حرب!
الإبدال الذبائحي: تحويل الضحية إلى رمز
الإبدال الذبائحي ممارسة معروفة تمامًا في المجتمعات القديمة – الإغريقية والأفريقية على سبيل المثال – وقد تناولها علماء الأنثروبولوجيا أكثر من مرة، وهي ممارسة تعني، ببساطة، بدلًا من التضحية بكائن بشري يُضحَّى بحيوان بدلًا منه، وحادثة النبي إبراهيم مع ولده إسماعيل أشهر من أن تُذكر.
في الأوديسة كما في سفر التكوين والقرآن ثمة حيوان «يتوسط في اللحظة الحاسمة بين العنف والكائن البشري المستهدف من قبله؛ مؤسسًا لإضاءة متبادلة»(5).
فلكي ينجو أوليس ورفاقه من السيكلوب العملاق الذي احتجزهم في كهف عملوا على فقأ عينه بوتد ملتهب، ولما استشاط هذا العملاق غيظًا وقد عمي بصره، رابط على باب الكهف وراح يتحسس بأيديه كيلا يسمح إلا بمرور نعاجه؛ غير أن أوليس كان أذكى منه، فاختبأ في نعجة وتركها تقوده إلى خارج الكهف. وهكذا نجَّاه هو ورفاقه حيوان.
في حَدَث الإبدال الذبائحي ثمة عنف ممارس بلا شك، تارة على الحيوان وأخرى على الكائنات البشرية، وتطور البشرية في هذا الصدد عبارة عن انتقال من التضحية بكائن بشري؛ فداءً لكائن بشري آخر، إلى التضحية بذبيحة حيوانية فداءً لكائن بشري آخر.
لكن المؤسف والعجيب أيضًا أن قاتل فتاة المنصورة قلب هذه المحاجة، مرة ثانية، رأسًا على عقب، فلم يقدِّم حيوانًا فداءً لحبيبته، وإنما قدمها هي نفسه قربانًا على مذبح رغبته في الاستئثار بها.
امتلاك المحبوب أم استحالة وصله؟
شرطُ الحب اليأسُ من وصل المحبوب مع دوام السعي إليه. وهذان أمران متناقضان؛ فاليائس من شيء أولى به أن ينصرف عنه لا أن يرغب فيه.
ومن جهة ثانية: ترى المحبَّ زاهدًا – والزهد آية اليأس ونتيجته – في كل شيء إلا في محبوبه، لكن عقله لا يستوعب أن الوصل ممكن؛ لذا تراه قانعًا بالقليل من حبيبه – نظرة أو رد سلام – سوى أنه رغم ذلك لا يقنع سوى بإفناء ذاته في ذات محبوبه، أو تغييب أناه في أنتيتة حبيبه. وذاك مَثَلٌ في الحب لا يفقهه أهلُ هذا الزمان.
المحبُّ لا يُقنعه وصلٌ ولا يُرضيه لقاء؛ ليس لأنه يمقت لُقيا حبيبه، وإنما يتمناه أكثر مما ينبغي؛ ولذلك ترى المحبَّ الصادق معذبًا أبدًا.
فلو أن رجلًا يحب امرأة من مجامع قلبه، يحبها بحق وصدق، وليس مجرد طامح إلى نَيل جسدها، والحصول منها على ما يرجوه رجل من امرأة، فلا تستغرب إن رأيتَ هذا المحبَّ الصادقَ يذرف الدموع الغزار وهو بين أحضانها.
إنه يبكي ليس لأنه غير راضٍ عنها، أو لأن جمالها لا يملأ عينه، وإنما لأنه ما عاد يعرف لشغفه بها دواءً، فإذا كان يبكي وهو بين أحضانها، فكيف به إذا غادرها لبرهة أو غادرته هي إلى الأبد؟!
ومن أبرز جدليات الغرام أيضًا أن البعد يهيِّجه، رغم أن منطق الأشياء أن «البعيد عن العين بعيد عن القلب»، لكن هذا القلب له منطقه الخاص. لا، بل ليس للقلب أي منطق، هو فقط بين يدي الرب، يقلِّبه كيف يشاء، وللقلب أقيسته الخاصة.
ومما يدلك على كون البعد يهيِّج الحب، حال مجنون ليلى، ألم تسمعه وهو يقول:
فشب بنو ليلى وشبَّ بنو ابنها … وأعلاق ليلى في فؤادي كما هيا
وهذا المجنون – وكل محب صادق مجنون – يقول أيضًا، نافيًا إمكان نسيان الحب، واستحالة التجاوز:
لحى الله أقوامًا يقولون إننا … وجدنا طوال الدهر للحب شافيا.
تحيلنا النقطة السابقة إلى مسألة أخرى في ديالكتيك الغرام، وهي تلك التي تتعلق باحتجاب المحبوب؛ فكلما بالغ مَن تحب، في التخفي، في البعد والاحتجاب، كنت أشد به تعلقًا وأكثر هيامًا.
واحتجاب الله – كموضوعٍ للحب والمحبة – خير مثال ودليل على ذلك، إننا نحب الله، لكننا لا نراه، تخيَّل مثلًا لو أتيحت لنا رؤية الله، كلما أردنا ذلك؟ ألا تدرك أن ذلك سيسقط هيبة الرب ومحبته في قلوبنا؟
ورغم إدراك الصوفيين لهذه المسألة – أعني جدوى احتجاب الله – فإن الواحد منهم كان مستعدًّا لبذل حُشاشة نفسه، مقابل أن يظل في وحدة الشهود؛ حيث لا يرى المريد في تلك الحال إلا الله.
مفضلًا إياها (أي وحدة الشهود) على وحدة الوجود، وفي تلك الحالة لا يرى العبدُ شيئًا إلا ويرى اللهَ فيه.
في النهاية، ما الذي يُرضي المحبَّ من وصل حبيبه؟ لا شيء، لا شيء أبدًا، اللهم إلا أن يذوب أحدهما في الآخر، ويمسيان روحًا واحدة حلَّت في جسدين. لو أحب رجلٌ امرأة بصدق فلن يقنع بسوى أن يقيمها تحت جلده أو يبني لها من عظامه سكنًا ومستقرًّا.
نقلاً عن “إضاءات”