رشيد الخيون
نُفذت فتوى الخُميني (ت: 1989)، بعد 33 عاماً، في سلمان رُشدي، فلفت الحادث مجدداً الأنظار إلى الكتاب (الآيات الشّيطانيَّة)، مع أنَّ ما فيه كان رمزيّة أدبية لرواية تاريخيَّة، أتى بها المفسرون كافة، عندما ذكروا أسباب نزول الآية «52» مِن «الحجِّ»؛ وفقرات أخرى كان يمكن الرَّد عليها بالقلم لا بالسِّكين، فلولا الضَّجة التي أثارتها فتوى القتل لا غربي سأل عمّا تعنيه «الغرانيق» ولا التفاصيل بقيت التفاصيل التي جاءت بالرُّموز، فبفضل الفتوى شُرحت الرّموز، لتصبح الرِّواية نقشاً في حجر.
بعد خفوت ضجة الفتوى، مررت بمحلٍّ يبيع أغراضاً قديمة، بينها كتب مستعملة، باستوكهولم، فوقع نظري على كتاب (The Satanic Verses) بطبعته الأولى (1988)، كان السِّعر المسجل على الغلاف (235) سويدياً، وجدته معروضاً بـ(25)، وإذا تقوم الفتوى بدورها وجعلته نشيداً على الألسن، والحادث الأخير أشاعه بين مَن لم يولدوا في زمن إصدارها.
يقول نص الفتوى: «أعلن للمسلمين الغيارى في أرجاء العالم أن مؤلف كتاب (آيات شيطانية) الذي دُون وطُبع بهدف معاداة الإسلام والرَّسول والقرآن، وكذلك النَّاشرين المطلعين على فحوى الكتاب، يُحكم عليهم بالإعدام. أطلب مِن المسلمين الغيارى المبادرة إلى إعدام هؤلاء على وجه السُّرعة أينما وجدوهم، كي لا يجرؤ أحد بعد ذلك على الإساءة إلى مقدسات المسلمين. إن كلَّ مَن يُقتل في هذا الطَّريق يعد شهيداً إن شاء الله. وإذا كان بوسع أحد العثور على مؤلف الكتاب ولا يستطيع إعدامه فليُطلع الآخرين على مكانه لينال جزاء أعماله. والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. روح الله الموسوي الخميني، في 7 رجب 1409» (صحيفة الإمام، الجزء 21)، ففيها إعدام جماعي، لكلِّ مَن له صلة بطباعة الكتاب ونشره.
بعد ثلاثة أيام تذكّر آية الله مصير الفتوى، فيما لو أعلن رُشدي توبته؟! فأصدر البيان الآتي: «نسبت وسائل الإعلام الاستعمارية كذباً، إلى المسؤولين في الجمهورية الإسلامية، قولهم بأنه إذا أعلن مؤلف كتاب (آيات شيطانية) توبته سيتم إلغاء حكم الإعدام الصَّادر بحقه». فقال الإمام الخميني: «… حتَّى لو تاب، وأضحى زاهد عصره، فإنه يجب على كلِّ مسلم أن يجد روحه وماله وكلَّ همه لإرساله إلى الدَّرك الأسفل. إذا اطلع غير المسلم على مكان وجوده، وتوافرت القدرة على إعدامه، أسرع مِن المسلمين، فإنه يجب على المسلمين مكافأته بما يطلب مقابل هذا العمل كثمن لفعلته. 11 رجب 1409» (المصدر نفسه).
تُعد هذه الفتوى مِن أخطر فتاوى رجال الدِّين، لأنها فتوى رجل دين ورئيس دولة مطلق الصلاحيَّة، وبما أنَّ النَّظام الذي تزعمه مستمر فلا تُعد فتوى «الميت» إنما فتوى الحيّ، كون النِّظام يُدار على ما أسسه، فإلغاء الفتوى يُعد بالنسبة لولاية الفقيه تنازلاً، بل خللاً في نظامها، بما يُخالف ولاية الفقيه وبالتالي مخالفة الإمام كونه نائبه ثم، حسب منطقهم، مخالفة الله، الذي يمثله الخميني أمس واليوم وغداً، ففي التشدد حياة وبقاء للنظام، شأن الفتوى شأن الميليشيات، المنتشرة في المنطقة، يكون إلغاؤها لأي سببٍ كان تراجعاً للنظام، وهذا عكس بقية الأنظمة، التي تكون قوتها بانفتاحها ومراجعة مسلّماتها السَّابقة.
ونحن أمام هذه الفتوى بودّي التذكير بميل فقهاء النَّجف لردِّ القلم بالقلم لا بالسّكين، والابتعاد عن الدِّماء، على ما يرونه كفراً، مدرسة النَّجف التي تعلّم بها صاحب الفتوى وجدّه، ثم عاش هناك ثلاثة عشر عاماً قبل الانتقال إلى تسلم عرش إيران. فـ«عندما أُريدَ إدخال كُتب دارون وشبلي شميل إلى العِراق، في عهد السُّلطة العثمانيَّة، أرسلتْ إلى النَّجف وعلمائها تستشيرها في ذلك. فعقد علماء النَّجف مجتمعاً، قرروا فيه وأفتوا أخيراً بجواز إدخالها إلى العِراق، على أنّ تُنقض وتُرد، وقد ردَّ على نظرية دارون الشيخ محمد رضا الأصبهانيّ، وعلى كُتب شبلي الشيخ جواد البلاغي» (محمد رضا، حديث الجامعة النَّجفية 1953). وأضيف إلى الاسمين: كان أولهم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (رد 1915).
اطلعت على الكتب الثَّلاثة وكتبتُ عمَّا ورد فيها، فلم أجد تهديداً بقتل أو كلاماً نابياً ضد دارون أو شبلي شميل (ت: 1917)، أو مَن أيدهم وطبع ونشر كتبهم؛ فأولئك تحدثوا بوقائع العِلم، وهؤلاء ردوا بمسلّمات الدِّين.
أعدّ الفتوى برُشديّ، من جنس السِّكين المغروسة في عنق نجيب محفوظ (1995-10-14)، ورصاصات قتل كامل شياع (2008-9-8)، والتي مزقت الرُّوائي علاء مجذوب (2019-2-2) والمئات غيرهم! ابحثوا في ضحايا الميليشيات و«القاعدة» و«داعش»، ستجدوا الفتوى وراء التنفيذ!
أقول: ضج العالم لرُشديّ، ونحن العراقيين نضجُ لقتلانا أمثاله، ولجرير الغطفي: «فما زالت القتلى تمجُ دماءها- بدجلة حتَّى ماءُ دجلة أشكل». انظروا لقوائم القتلى ستحنّوا، وأنتم تحت سكاكين الإسلام السِّياسيّ، إلى ماضي النَّجف، حنين «النُّوق للعطنِ»!
نقلاً عن “الشرق الأوسط” اللندنية