عبدالغني سلامة
حتى سبعينيات القرن الماضي كانت مادة الفلسفة جزءاً من المنهاج التدريسي في الأردن، ولكن نتيجة نفوذ الإسلاميين في العملية التعليمية وفي وزارة التربية ألغيت مادة الفلسفة. ومنذ سنوات بدأ العديد من المثقفين في الأردن بالمطالبة بإعادتها للمنهاج. وأخيراً، قررت وزارة التربية والتعليم الأردنية إعادة تدريسها للصفوف الأساسية والثانوية بدءاً من السنة الدراسية القادمة.
وتعليقاً على القرار نشر د. إياد قنيبي على قناة «يوتيوب» تسجيلاً يندد فيه بالقرار، قائلاً: «الفلسفة ليست ضرورية للطلبة، بل هي تدمر حصانتهم الفكرية والعقائدية، مشبّهاً الفلسفة بالفيروس الحقير، وببركة مياه صغيرة لكنها تُغرق من لا يجيد السباحة، وأن الفلسفة لم تنفع البشرية لا قديماً ولا حديثاً لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأنه كان من الأفضل لو تم حرق جميع كتب الفلسفة واستخدامها وقوداً للتدفئة في الشتاء، واصفاً إياها بالهراء، والخربطات، وأنها علم لا ينفع، وأنها عبث بالجيل، ومؤكداً على «أننا (ويقصد الإسلاميين) نمتلك الإجابات اليقينية والمقنعة والشافية عن جميع الأسئلة الوجودية والفكرية، وأننا فقط من يجب أن يتولى عملية تعليم أبنائنا وتربيتهم وبناء شخصياتهم، وأن نحميهم مما يفسد دينهم ودنياهم».
ويوضح القنيبي أنه أجرى استطلاعاً للرأي على عدد كبير من المدارس حول دورها في بناء الإنسان (تحديداً في الأردن)، وتبين له أن نسبة بسيطة جداً (تتراوح بين 4% – 10%) فقط من الطلبة استفادوا من المدرسة، بحيث إن الطالب تلقى علماً حقيقياً، وتعلم كيف يفكر ويحلل ويربط المعلومات ببعضها، وكيف ينقد ويكتشف المغالطات، وكيف يطرح الأسئلة، ويعبّر عن نفسه، وكيف يميز بين العلم الحقيقي والعلوم الزائفة، وكيف يحقق السعادة والتوازن لنفسه، وكيف يدير أموره الحياتية ويطبق ما تعلمه، وكيف يجيب عن الأسئلة الوجودية المحيرة.. بمعنى أن الغالبية العظمى من الطلبة (90% – 96%) لم يستفيدوا من المدرسة بشيء، بل إن منهم من أثرت عليه سلبياً.
وكما نعلم، المنهاج التدريسي في الأردن يخلو من الفلسفة، وفيه قدر كبير من التعليم الديني الذي يدخل في جميع المواد، بما فيها الرياضيات والعلوم الطبيعية بطرق وتضمينات عديدة. هذا فضلاً عن التلقين الديني الذي يتلقاه الطالب منذ صغره في البيت والشارع والمجتمع وبتكثيف عالٍ. ومع ذلك ظهرت تلك النتائج المخيبة والمحبطة!
وهذا يقودنا لتساؤلات عديدة: كيف يحمّل القنيبي مادة الفلسفة مسؤولية تدهور العملية التعليمية والتربوية، وهي ليست ضمن المنهاج أساساً منذ أكثر من خمسين سنة؟ وهل المشكلة في تدريس الدين أم في أساليب التدريس نفسها؟
إذا سلّمنا بصحة نتائج الاستطلاع، فأعتقد أن المشكلة ليست في تدريس الدين، بقدر ما هي في أساليب التدريس، وهذا يشمل محتوى المنهاج، وطريقة تقديمه للطلبة، وفي تأهيل المعلمين، والبيئة التدريسية برمّتها.
الحرب التي يشنها القنيبي وغيره على الفلسفة ليست بالجديدة، فهي قائمة منذ زمن بعيد، روادها الغزالي وابن تيمية ونظام الملك وغيرهم ممن شنوا حرباً شعواء ضد الفلسفة، وضد المعتزلة، وضد الترجمة مستعينين بسلطة الخليفة، فكفّروا واضطهدوا وقتلوا معظم فلاسفة وعلماء العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، وأحرقوا كتبهم، ونفوهم من الأرض (ابن سينا، والفارابي، والجاحظ، وابن رشد، والراوندي، وابن حيان..)، ولم يسلم منهم حتى المتصوفون والأدباء وعلماء الكلام (غيلان الدمشقي، ابن المقفع، الجعد بن درهم، السهروردي، الحلاج..)، وكان النتيجة أفول الحضارة الإسلامية سريعاً بعد أن تم تفريغها من عناصر الابتكار والتجديد والنقد والتفكير الحر، لصالح علوم الفقه، وانتصار مدرسة النقل على العقل، والتقليد على الإبداع، والجمود على الحركة والتطور.. والتي بسببها خرج العرب والمسلمون من دائرة الفعل والتأثير في الحضارة الإنسانية، وصاروا عبئاً عليها، يتلقون الهزائم والخيبات ويواصلون انحدارهم، حتى صاروا في ذيل الأمم، متأخرين عن ركب الحضارة سنوات ضوئية.
الفلسفة هي روح الحضارة وعقلها، هي طريقة تفكيرها العقلاني والمنطقي، لأنها تعطي للعقل فضاء رحباً للتحليق، وتمنح التعبير حرية سقفها السماء، وتسمح بنقد كل شيء، الفلسفة وكذلك الآداب والفنون تسبق العلم وتمهد للاكتشافات والتطور التكنولوجي والتقدم المدني بكل تجلياته وأشكاله.
قبل أن تنهض أوروبا ظهرت فيها الحركة الإنسانية (مايكل أنجلو، دافنشي، رافايلو)؛ وهي حركة فكرية فنية ساهمت في تطوير المعرفة، وركزت على تمجيد الإنسان، وأعلت من قدر العقل، والتفكير العلمي والاستدلال بالبراهين بدلاً من المقولات الدينية الرائجة.
وقبل الثورة العلمية ظهر كوبرينيكوس وغاليليو مستفيدين من إرث بطليموس وسقراط وأفلاطون. وقبل اختراع المطبعة ظهر مارتن لوثر. وقبل الثورة الفرنسية ظهر جون لوك، وروسو وفولتير، وقبل اختراع المرسيدس ظهر كانْت، وفرنسيس بيكون، وسبينوزا، وقبل الثورة البلشفية ظهر ماركس، وإنجلز، وقبل الثورة الصناعية ظهر آدم سميث.
وقبل عصر الحداثة ظهرت مفاهيم حقوق الإنسان، والنظريات العلمية، والتفكير المنطقي، والمذهب العقلاني والشك المنهجي، والتسامح، والديمقراطية، وفن الرسم والنحت، والعمارة، والموسيقى.
القنيبي يعتقد جازماً وبيقين لا يتسرب إليه الشك أنه يمتلك الإجابات الشافية والكافية عن كل الأسئلة الوجودية، يحملها على شكل عبارات جاهزة ومعلبة، وأحكام مسبقة وثابتة، ويسعى لتلقينها للآخرين، بعقلية الأستاذ، وهذا ما يسمّى في علم النفس «وهم التفوق».
في ظني أن هذا النهج انتهى، وصار من الأحفوريات، بعد أن تجاوزته الحداثة بكل ما أتت به من علوم وتكنولوجيا وتقدم وثورة في الاتصالات والتواصل. صار بوسع أي طالب ابتدائي استخراج أي معلومة من «غوغل»، لم يعد بوسع الفقهاء تقديم مختارات منتقاة بعناية من التراث، بعد تحريرها وتأديبها. صار كل شيء مفتوحاً ومتاحاً للجميع، وهذا الجيل الجديد ذكي ومطلع وتثيره الأسئلة، ولديه مفاتيح توصله إلى أين يريد، ولا يستطيع أحد منعه، فقد تحرر كلياً من الوصاية الأبوية والعقلية البطريركية، ولم تعد تكفيه تلك الإجابات الجاهزة والمنمقة.
قرار إعادة الفلسفة للمنهاج خطوة مهمة، ولكن ما أخشاه أن تتحول إلى مادة مملة وثقيلة، خاصة إذا رافقتها امتحانات، وأسئلة من نوع: اذكر خمسة فروق بين كانت وهيغل.. عدد سمات فلسفة سبينوزا.. متى ولد الفارابي؟
الفلسفة عكس التلقين، هي مادة للحوار الحي والمناقشة الحرة وتعدد الآراء واختلاف وجهات النظر. هي حث على التفكير النقدي والجريء ولا تصلح معها الامتحانات.
نقلاً عن “الأيام”